شعار قسم مدونات

الريف المغربي.. منارة التحرر من الاستعمار والاستبداد

مدونات - معركة أنوال المغرب

لطالما شكل الريف بالمغرب الأقصى مصدر إلهام للشعوب التواقة للتحرر من ربقة الاستعمار ونير الاستعباد، حيث كانت المقاومة الريفية بشمال المغرب إبان الاستعمار الاسباني وبقيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، من أشرس وأقوى المقاومات بشمال إفريقيا وبل في كل دول العالم الثالث التي شهدت موجة استعمارية من طرف القوى الإمبريالية أو ما يصطلح عليها بالدول العظمى (العظمى في نهب الشعوب!).

لقد استطاع هدا الأمير المجاهد والعالم الجليل، سليل أسرة عريقة وبيت شكل العلم ركيزته والدين أساسه، ابن قبيلة بني ورياغل الأمازيغية، توحيد أبرز القبائل الريفية وهي: كزانة وبني ورياغل وبني توزين وتمسمان، على أرضية الجهاد ومواجهة الاستعمار بل وقدم بديلا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا متقدما. فبحكم ضعف السلطة المخزنية -غالبا ما يشار بالمخزن لحاشية السلطان من شخصيات متنفدة تدعي سهرها على أمنه وتدبير شؤون البلاد- آنداك وانحصار سلطات السلطان المغربي، نتيجة تغول الاستعمار، وعدم قدرتها على الاضطلاع بمهامها في حفظ الأمن وخدمة أهالي الريف.

لقد شكلت نتائج معركة "أوران" البطولية صدمة لوجدان الشعب الإسباني وقيادته المغرورة، وعقدة لم تفارق الإسبان ليومنا هذا، فمن اعتبروهم أناسا جاهلون ومتخلفون يعيشون حياة بدائية في جبال وعرة، الحقوا هزيمة نكراء بدولتهم العظمى والمتقدمة، الأمر الذي خلق أزمة سياسية حادة بإسبانيا.

وأمام الانتصارات الباهرة التي حققها المجاهدون الأمازيغ، اضطر الخطابي إلى تأسيس الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف في 18 سبتمبر سنة 1921 وفق نظام دستوري حديث ومتقدم، مستندة على أحكام شريعة الله وأنظمة الإدارة الحديثة، والتي كانت بهدف توحيد قبائل الريف والتفاوض مع المستعمر، وإيجاد بديل مؤقت في انتظار تحرير باقي مناطق المغرب، وليس انفصالا عن السلطة المركزية كما تدعي فرنسا وبعض عملائها من المتنفذين في دار المخزن.

لكن شاءت الأقدار أن لا تستمر هذه التجربة الرائدة، حيث تحالفت القوتين الاستعماريتين (فرنسا، إسبانيا) بتجييش حوالي 800000 جندي، كما استخدمت كل السبل القاسية والعنيفة بل وقصف المناطق السكانية في جبال الريف بالسلاح الكيماوي لتدمير الحاضنة الشعبية للمقاومة الريفية نتيجة عجزهما أمام شراستها واستماتتها، مما خلف عاهات لا زالت أثارها ظاهرة ليومنا هذا والمتمثلة في ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان في منطقة الريف بالمقارنة مع باقي المناطق.

لقد كان هذا الرد العنيف واستدعاء كل الوسائل الخبيثة والغير الإنسانية من طرف دول تدعي أنها في معركة لتحرير الشعوب من الجهل والتخلف، نتيجة طبيعية لما تعرضت له من هزيمة نكراء بشمال المغرب وفقدانها لهيبة كانت أساس هيمنتها على الدول المستعمرة، فقد ظل الريف عصيا عن الاستعمار حتى سنة 1926، بينما ترزح كل دول المنطقة تحت نير الاستعمار، كما شكلت معركة أنوال ضربة قاضية للجيش الإسباني وعقدة تاريخية لن ينساها.

قرر الجنرال سلفستر يوم 17 يوليو من سنة 1921 التقدم بجيشه نحو بلاد الريف، مدعيا وبكل غرور وعجرفة أنه في ظرف يومين سيشرب الشاي بمنزل الأمير بن عبد الكريم الخطابي، هذا الأخير الذي استدرج الجنرال الإسباني هو وجيشه نحو جبال الريف بمنطقة أنوال، والذي قاد رجالا ثائرون عن الظلم، سلاحهم إيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم في الدفاع عن حمى الدين والأمة، وأنهم أحرار في بلادهم ولا يقبلون الرضوخ لأحد، وإن تطلب الأمر ان يضحوا بحياتهم مقابل ذلك.

إلى جانب هذه العقيدة الصلبة التي تمتح من معين الإسلام قيمها وصلابتها، كانت قيادة المجاهدين تتوفر على عقل استراتيجي ذو رؤية مستقبلية قل نظيره، قادتهم إلى نصر أسطوري، لم يكن أحد يتصور أنه قابل للتحقق في ظل هيمنة استعمارية وقوة عسكرية جبارة، حيث استطاعت قلة من الرجال ذات تسليح أقل ما يقال عنه أنه بدائي لا يتعدى عشرات البنادق والقنابل مع ذخيرة محدودة جدا، يمتطون الأحصنة وزادهم تين جاف وخبز الشعير، إلحاق الهزيمة بجيش جرار قوامه 24 ألف جندي وعتاد متنوع بين مدافع ودبابات، وقذائف وطائرات.

من نتائج هذا الانتصار العظيم قتل أكثر من 15000 بين جنود وضباط وكلونيلات، حتى الجنرال سلفستر نفسه انتحر هروبا من ذل الهزيمة، كما تم أسر حوالي 570 آخر بالإضافة إلى غنائم غير محدودة مما مكننا من القول بأن الجيش الاسباني قد تم تدميره كليا، ماديا ومعنويا، لقد شكلت نتائج هذه المعركة البطولية صدمة لوجدان الشعب الإسباني وقيادته المغرورة، وعقدة لم تفارق الإسبان ليومنا هذا، فمن اعتبروهم أناسا جاهلون ومتخلفون يعيشون حياة بدائية في جبال وعرة، الحقوا هزيمة نكراء بدولتهم العظمى والمتقدمة، الأمر الذي خلق أزمة سياسية حادة بإسبانيا، مما عجل في النهاية من ظهور الدكتاتورية وتغيير أسس نظام الحكم الإسباني، وبالتالي اشتعال حرب أهلية طاحنة باسبانيا في أربعينيات القرن العشرين.

الواقع الاستعماري من قمع وظلم، أتبث أن الاستعمار لا يفهم إلا لغة السلاح وإن كانت الدولة المستعمرة تدعي الديمقراطية وقيم التحرر والحداثة. استطاع بن عبد الكريم الخطابي إدراك هذا الأمر منذ البداية فقرر حمل السلاح وصار على نهج الكفاح حتى تحقيق الحرية.

هذا الإنجاز العظيم جعل القائد بن عبد الكريم الخطابي شخصية أسطورية، وملهما لكل الشعوب والحركات التحررية بالعالم والتي بدأت تدرك في تلك المرحلة، خصوصا بعد الانتصارات العظيمة التي حققتها المقاومة الريفية، أن الكفاح المسلح قصد التحرر هو واجب المرحلة والاستقلال مطلب صار تحقيقه قاب قوسين أو أدنى، وجعلت من إستراتيجيته الفذة وإبداعه في ابتكار حرب لا كحروب، سميت بحرب العصابات والتي تركز على استنزاف قوى العدو وإلحاق أكبر قدر من الأذى به بالاعتماد على التخطيط المحكم والخطوات الذكية والصبر الطويل مع تدبير الموارد المحدودة، خطة تتدارسها القوى التحررية وتعتمد عليها في كفاحها ضد الاستعمار والاستبداد.

هذا النجاح الباهر دفع القائد الثوري الشهير تشي جيفارا للسفر إلى مصر خصيصا لزيارة مبدع نظرية حروب العصابات والخنادق في القرن العشرين، وطلب النصح من القائد الكبير وأن يرشده في كفاحه ضد الإمبريالية الاستعمارية وأذنابها من المستبدين في دول جنوب أمريكا اللاتينية، بل حتى في آسيا عندما زار قائد المقاومة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات، زعيم الثورة الصينية ماوتسي تونغ وسأله عن سر انتصاره، أجابه وبكل ذهول نحن استفدنا واستلهمنا خططنا من أحد قادتكم العظام وهو بن عبد الكريم الخطابي.

كما يحتسب لهذه المقاومة الريفية الشرسة أن أعادت فكرة الجهاد والكفاح المسلح لمواجهة الاستعمار، بتأسيس جيش التحرير بالمغرب ثم بدول شمال إفريقيا (الجزائر، تونس..)، حيث أصبحت القوى الوطنية بمختلف هذه الدول تؤمن أنه لا استقلال بدون كفاح مسلح إلى جانب النضال السياسي، رغم معارضتها في بادئ الأمر، لكن الواقع الاستعماري من قمع وظلم، أتبث أن الاستعمار لا يفهم إلا لغة السلاح وإن كانت الدولة المستعمرة تدعي الديمقراطية وقيم التحرر والحداثة. استطاع بن عبد الكريم الخطابي إدراك هذا الأمر منذ البداية فقرر حمل السلاح وصار على نهج الكفاح حتى تحقيق الحرية كاملة غير منقوصة، وهو القائل: "لا أرى في هذا الوجود إلا الحرية، وكل ما سواها باطل."

يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.