شعار قسم مدونات

إنِّي قريب

blogs الدعاء

لقد كُنت في السابق؛ في كل مرةٍ أُصاب فيها بالحُزن أتوّجه لله؛ حيث أعلم بأنني لو لففتُ في كل مكانٍ في هذه الكرة الأرضية سيراني، كنت أعلم بأنني سواءً همست، أو حتى تكلّمت بصوتٍ عال، أو تمتمت بكلماتٍ غير مفهومة بأنّه الوحيد الذي سيسمعني، الوحيد الذي يستطيع أن يرّد عطش روحي للحياة مرًة أخرى. لكنّ أمي لم تتركني هكذا فقط! علّمتني أمي بعد دروسٍ كثيرة بأن الله يُحمد ويُدعى له في السرّاء والضراء، فحينما نتعب يكون هو ملاذنا الأول والأخير، وحينما نفرح يجبّ علينا أن نُصلي صلاة شُكر وورد حمدٍ لا ينقطع.

علّمتني هذه العادة الكثير، تمكّن اليأس مني في كثيرٍ من الأحيان لكنني كنت أخرج منه فقط بالدّعاء، بالرجاء، بكلام الله وكأن آية "وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" جاءت لتقول لنا: "أنا هُنا، أراك مهما كُنت صغيرًا، مخفيًا، محبًا، شريرًا، قاسيًا، مَرِنًا، ضعيفًا، رائعًا، طموحًا، يائسًا، مكتئبًا، حزنًا، فرحًا.. أنا هُنا لأراك في جميع حالاتك، تقلباتك التي قدرّتها لك وتلك التي غيرّها دعاؤك".

في ثقافة الغالبية العظمى يصيبهم اليأس من الدُّعاء وهم لا يدركون بأنّ تلافيف وجههم تُضيء إذا ما دّعوا فقط، إذا ما أزاحوا هذا الهّم عن أكتافهم بسجدةٍ تطأُ الأرض لتقابل عظمة السماء.. يصيبهم اليأس فيجدون أنفسهم بعدها قد توقفوا عن الدعاء ولرّبما أيضًا، آمنوا في قرارة أنفسهم أنّهم من الأشخاص الذي لا يُجاب دعائهم فوضعوا نفسهم في هالةٍ لا يخرجهم منها سواهم، سوى إحساس يأتِ لهم بهيئة مختلفة تقلبُ رأيهم رأسًا على عقب.
 

إن اليّقين بالدعاء هو الذي يجعله يرتفع، تلك اللحظة التي ترى نفسك فيها محتاجًا، فرحًا، ضريرًا لا ترى إلا وجه الله، تخرّ ساجدًا لتعلن بأنك في وضعك المثالي لتُبصر العالم مرًة أُخرى

ويخطر على بالي في هذا المقام ما ذكره التنوخي بسندّه عن عبيد الله بن سليمان يقول في وزارته قال لي أبي: كنت يومًا في حبس محمد بن عبد الملك الزيّات في خلافة الواثق، آيس ما كنت من الفرح وأشدّ محنًة وغمًّا حتى وردت عليّ رقعة أخي الحسن بن وهب وفيها شعر له:

محن أبا أيوب أنت محلها.. فإذا جزعت من الخطوبِ فمن لها
إن الذي عقد الذي انعقدت بهِ.. عقد المكارة فيك يحسن حلها
فاصبر فإن الله يعقب فرجه.. ولعلّها أن تنجلي ولعلّها
وعسى تكون قريبة من حيث لا.. ترجو وتمحو عن جديدك ذلها

قال: تفائلت بذلك وقويّت نفسي به وكتبت إليه:

صبرتني ووعظتني وأنا لها.. وستنجلي بل لا أقول لعلّها
ويحلها من كان صاحب عقدها.. ثقة به إذ كان يملكُ حلّها

فقال: لم أصلِّ العتمة ذلك اليوم حتى أُطلقت فصليتها في داري ولم يمضِّ يومي ذاك حتى فرّج الله عني وأُطلقت من حبسي.

إن اليّقين بالدعاء هو الذي يجعله يرتفع، تلك اللحظة التي ترى نفسك فيها محتاجًا، فرحًا، ضريرًا لا ترى إلا وجه الله، تخرّ ساجدًا لتعلن بأنك في وضعك المثالي لتُبصر العالم مرًة أُخرى. إنني هنا أريد أن أرسل رسالة لصديقتي التي أُحبها جدًا – تلك التي آمنت بأن الدُعاء من قلبها لا يُستجاب.

 

إنّ الله هنا يسمعك، يعرف رجاؤك، يعرف تفاصيل وجهك الذي لا تخفيه أي نجمة في السماء، يعرفُك جيدًا لكنكِ لا تعرفينه كما أراد لكِ، لم يدق اليقين بابُك بعد لدرجة تعيد تلف روحك الناتج من عقم الظروف

يا صديقة.. إنّ الدعاء ليس حكرًا على أحد، يستطيع أي شخص أن يدعو ويدعو دونما أي انقطاع مهما كان دينه، عرقه، يأسه، طموحه، فقره وحاجته لله لكنّ الأهم من ذلك أن يعمل، ألا يتواكل، ألا يستسلم ولا يجزع عند أول لحظة ضعفٍ تتمرّغ يداه فيها فيقف مشدّوهًا تنازع يداه النافذة وجسدهُ مختفٍ على أرضية ربما لم تكن صلبة يومًا!

يا صديقة، إنّ الله هنا يسمعك، يعرف رجاؤك، يعرف تفاصيل وجهك الذي لا تخفيه أي نجمة في السماء، يعرفُك جيدًا لكنكِ لا تعرفينه كما أراد لكِ، لم يدق اليقين بابُك بعد لدرجة تعيد تلف روحك الناتج من عقم الظروف، لم تأتِ وحدك لتريّ سحابًة تُمطر فوق رأسك فقط دونًا عن العالم أجمع.

يا صديقة.. إن الحياة هنا صعبة وليس لنا إلا أنفسنا ودعاء يجمع لنا في السماء على هيئة أمنية تُمطر فتُزهر أرض هذا الكون. يا صديقة.. إنني أراكِ تدعين الله في الخفاء، أؤكد لك بأنه طريق النجاة الوحيد الذي يلّف ذراعيكِ.. يا صديقة.. إن الله حاضرٌ في قلبك فاجعليه حاضرًا في دعائك أيضًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.