شعار قسم مدونات

نقد الذات

blogs - رجل تعيس
عبارة الإصلاح أكثر الألفاظ استعمالاً في لغة العرب اليوم. وقد غدَا معنى النهوض بؤرة الاستقطاب في حديث الناس من شُذّاذ الآفاق إلى وجهاء الناس. وما أسرع الخيبة إلى نفس المتفائل حين يكتشف زَيْفَ هذا الحديث. فالنهوض عند بعضهم تقرير لواقع بينما الواقع يَروِي قصة الغفلة والدُّجل والغرور. وهو في عُرف بعضهم الآخر مجرّد أمنية اختلّ أساسها ومُسَّ لُبابُها فقامت إمّا على عنصر الاستغلال السياسي وإمّا على نزعة التقليد العفوية بإزاء خضم التقدّم العالميّ. وعبثاً تُحاول البحث عن معنى الإرادة في مفهوم النهوض عند هؤلاء جميعاً. مع أنّ الإصلاح العربيّ لن يتحقّق إلا حين تتحوّل فكرة النهوض إلى إرادة. وتلك بداهة يبدو أنّها مغمورة إذ أن حدوث الأمور مرهونٌ بأن يُراد. وعلى قول العقاد: البواعث النفسية هي كل شيء. هي الحياة وكل ماعدا ذلك فهو أدوات وآلات. فيُنشِد في ذلك أبو القاسم الشابي:
إذا الشَّعْبٌ يَوْماً أَرَادَ الحَيَاةَ *** فَلاَ بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ القَدَرُ

والإرادة تصوُّرٌ وعمل أيْ إدراك سليم للواقع بأكمله وبكلّ ما يُحيط بجوانبه وفعل حرٌّ ثابت مندفع بقوّة الإيمان وبِدَّةِ الحُسبان. أمّا حين لا يكون ثَمَّ إدراك سليم فلا فعل ولا إرادة وليس ثمّة من حدوث لأمر ما. ومن الجَّلِيّ أن هذا الإدراك لا يُولّد مباشرةً الإرادة ولكن يوجد أوّلاً مبرّرات هذا الفعل: إنّه يُخلَقُ من الشعور بالحاجة إليه.

كان لا بُدَّ للنقد من أن يَصدُرَ عن الذات إيّاها وهذا ما لا يَتِمُّ طبعاً إلاّ بعد أن تعتمر الذات بالثقافة الكفيلة بتركيز قدرة التمييز والتي يمثّلها رجال الفكر.

والمُلاحَظُ في الواقع العربيّ هو أنّ الافتقار إلى هذا الشعور بالذات هو السبب العميق في عدم تكوّن إرادة النّهوض: فلا وجودَ لشعورٍ أو إيمانٍ صميم بالحاجة إلى النهوض ما دامت فكرة النهوض وصفاً كاذباً للحاضر أو صورةً عاطفيّة خاوية تُستعمل كأداة سياسية خادمة أو سلعة تقليدية منغلقة في مضمار العمل القومي.

ونحن إذا تحرّينَا عِلَّة ذلك في مجال الإدراك أمسكنا بخيط الحقيقة: فهناك عدم تصوُّرٍ للتّقدّم السويّ من جهة وهناك عدم تمييز لمعالم الفساد الحقيقيّة في واقع العرب من جهة أخرى. وترجِع هذين الظاهرتين كليهما إلى ظاهرة رئيسية هي عدم تمثُّلِ روحِ الحضارة الحديثة. فالعرب يعيشون اليوم هذه الحضارة -أي الحضارة الحديثة- بصُوَرِها وأشكالها ولكنّهم يَغفَلون عن روحِها.

إنّ هذا الوضع هو ما يُعينُ المهمّة الرئيسيّة لكُتّاب العرب. فإذا كانت الوسائل الحالية لنشر الثقافة لم تُؤدِّ بعدُ إلى هضم الحضارة الراهنية بشكل واسع النطاق فالأمل معقود على هؤلاء الرجال لكي يستخدموا نضجهم الفكري في الإنارة والتنبيه إلى الحقيقي الأصيل من مساوئ الحاضر ومقاصد المستقبل أيْ فيما يؤول إلى بعث الشعور بالحاجة إلى النهوض. وهذه المهمة هي ما يَصِحُّ أن ندعوه نقد الذات.

من الراهن أن لا سبيلَ إلى كمال الذات إلاّ بإدراكها لنفسها أوّلا. فمبدأ اعرف نفسك هو نقطة البدء لكلّ تكامل. وإذا كانت الذات في منحدرٍ ما فإدراكها لنفسها متركّز في النقد وهو ما يَنتُجُ عن المفارقة بين حاضر مجرح وبين صورة واضحة للكمال المثالي، وهذا هو النقد إذ يتميَّز بالنزاهة قابل للصدور عن إحدى الجهتين، فهو إمّا أن يأتي من خارج أو من داخل. فأمّا إذا جاء من خارج فهو لا يُؤتي ثمرة الإصلاح المَرجُوَّة لأنّه يتعرّض بذلك إلى عامل سوء الظن ويتحطم غالباً على صخرة الكرامة الشخصية أو الغرور. لذا كان لا بُدَّ للنقد من أن يَصدُرَ عن الذات إيّاها وهذا ما لا يَتِمُّ طبعاً إلاّ بعد أن تعتمر الذات بالثقافة الكفيلة بتركيز قدرة التمييز والتي يمثّلها رجال الفكر.

إنّ أوّل مظهر من مظاهر تكوّن إرادة النهوض في العالم العربي هو موجة جماعية من نقد الذات، وإنّ مدى تركيز هذا النقد وعنفه هو الذي يُعيّن حقيقة الإرادة ومدى صدقها.

إنّ على هذا النقد أن يكون نَيِّراً يُراعي مراقبة الواقع بعين العلم وحازماً متجرّداً من أيّة آثار للعاطفة القوميّة إلاّ ما جعل لهذه العاطفة باعثاً له فقط. وعليه أن يتناول من الأمور والقضايا ما هو -فعلاً- جوهريّ وصميم في الكيان الاجتماعي وليس الإعراض للتّوافه التقليدية التي لا تُشكّل في الحقيقة غير قضايا زائفة هي أغلبُ ما أُثِيرَ حتى الآن من مشاكل دون أن تُخلّف أثراً في الوجود العربي لافتقارها إلى المادة والأساس على السواء. أمّا الهدف الأوّل لهذا النقد فهو تحديد المفاهيم الرئيسيّة للحياة الاجتماعية وبخاصة منها مفهوميّ التقدّم والتّأخّر. فالخطأ في تمثيل هذه المفاهيم هو في الواقع مصدر هامّ من مصادر العلل في الحياة العربيّة وسبب إخفاق معظم محاولات النقد.

إنّ أوّل مظهر من مظاهر تكوّن إرادة النهوض في العالم العربي هو موجة جماعية من نقد الذات، وإنّ مدى تركيز هذا النقد وعنفه هو الذي يُعيّن حقيقة الإرادة ومدى صدقها وكلّما كانت الإرادة أقوى وأوثَق كانت أنفَعَ وأنجَعَ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.