شعار قسم مدونات

محنة اليهود الأخلاقية بين بطش الغرب وسماحة المسلمين

blogs- اليهود
لم تكن الفظائع التي تعرض لها اليهود في ألمانيا وتنكرت كل أوروبا لهم ورفض لاجئيهم، لم تكن قاصرة على أوروبا بل امتدت لكل العالم الغربي والشرقي ما عدا بلاد المسلمين! وأذكر هنا مثالين دالين على غيرهما:
 
الأول: من الولايات المتحدة حيث نشرت صحيفة النيويورك تايمز في 1 يونيو 1939 تحقيقا تحت عنوان (مخاوف من موجة انتحار على سفينة اللاجئين) تناول مأساة سفينة "سانت لويز" التي أقلت ألفا من اليهود الفارين من النازي، وظلت شهرا على السواحل الأميركية في محاولة يائسة للسماح لهؤلاء الفارين بدخول الولايات المتحدة. ونقلت الصحيفة مشاهدات لرجال انتحروا بقطع شرايين أيديهم، وآخرين انتحروا بالقفز في مياه المحيط، ونقلت صيحات الصراخ اليائس للنساء والأطفال على متن السفينة، وكل هذا لم يشفع للسلطات بإدخالهم. والأعجب أن الصحيفة قالت إن الرأي العام الأمريكي أيضا ضد قبول هؤلاء اللاجئين.

الثاني: من الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وفيه أنه في عام 1904 وقعت ثلاث وأربعون مذبحة (Pogrom) لليهود في كل أنحاء روسيا. وفي السنة التالية 1905 نفذت 660 مذبحة ضد الجاليات اليهودية الروسية خلال أسبوع واحد بوحي من الحكومة، قادت إلى آلاف القتلى والجرحى وإلى أضرار بالغة للممتلكات. وكان هذا أيضا حافزا لعشرات الآلاف من اليهود للفرار من روسيا إلى الغرب وفلسطين. وقبل ذلك بسنوات في مارس ١٨٩١ أصدر سيرجي أليكسندروف حاكم موسكو مرسوما ملكيا بطرد اليهود من العاصمة موسكو وتحريم دخولهم لها، مما شرد الآلاف منهم واضطر بضع مئات منهم لاعتناق المسيحية ليبقوا في موسكو.

أثناء تلك الأحوال العاصفة باليهود، كان نظراؤهم يعيشون في البلاد الإسلامية في أجواء تتسم بالمسامحة والتعايش، على امتداد القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. إن شواهد ومؤشرات تلك الحياة "الكريمة" البعيدة عن أي عنصرية، تعطي صورة إنسانية مختلفة تماما عن أجواء الكراهية والتمييز العنصري التي سادت روسيا وأوروبا والولايات المتحدة آنذاك. نأخذ مثالين فقط من الجزائر ومصر يدلان أيضا على غيرهما.

محنة اليهود الأخلاقية ستظل وصمة ملتصقة بهم، أنهم جبنوا عن مواجهة من أذاقوهم ألوان القهر والخسف وأصبحوا لا يصفونهم الآن إلا بمصطلح "العالم الحر"، بينما انتقموا وشردوا ونهبوا وسلبوا بلادا أحسن أهلها إليهم عبر قرون طويلة.

ذكر صموئيل أتينجر في كتابه (اليهود في البلدان الإسلامية ص355): ".. أما اليهود فقد أعرب قادتهم الذين نعني بهم قادة اﻟﻤﺠالس اليهودية وبعض رجال الأعمال وموظفي الحكومة من يهود الجزائر عن رغبة أبناء الطائفة اليهودية في الحصول على حق المواطنة (الجنسية) الفرنسية ونجحوا في الحصول على تأييد اﻟﻤﺠلس اليهودي المركزي في باريس وبعض الشخصيات اليهودية المرموقة مثل أدولف كرميه الذي أعلن في أماكن عديدة عن ضرورة إخراج يهود الجزائر من عالم العبودية إلى الحرية.
وأسفرت هذه الضغوط عن أولى ثمـارهـا فـي عـام ١٨٥٦ أي بـعـد زيـارة نابليون الثالث للجزائر إذ أصدر القيصر عند عودته لباريس مرسوم Senatus Consulte الذي منحت فرنسا بمقتضاه لكل مواليد الجزائر من يهود ومسلمين حق الحصول بشكل فردي على حق المواطنة الفرنسية شريطـة أن يـعـربـوا عن استعدادهم للتخلي عن ارتباطهم بقوانينهم التقليدية.

وبذلت المجالس اليهودية والدوائر «التقـدمـيـة» فـي هـذا الحـين جـهـودا مستميتة في أوساط اليهود بغرض تشجيع أعداد غفيرة منهم على الحصول على حق المواطنة الفرنسية ومع هذا لم تسفر كل هـذه الـضـغـوط إلا عـن تقدم عدد محدود من يهود الجزائـر بـطـلـب الحـصـول عـلـى حـق المواطـنـة الفرنسية فلم يتقدم من مقاطعة الجزائر التي بلغ تعداد اليهود بها ١١ ألف نسمة سوى خمسين مرشحا ولم يتقدم من مقاطعة وهران التي بلغ تعداد اليهود بها ١٤ ألف نسمة سوى ٢٠٣ يهود وكان من بينهم ١١٣ يهوديا مغربيا وتونسيا ولم يتقدم سوى أربعين يهوديا من منطقة قسطنطينة لـلـحـصـول على الجنسية الفرنسية وكان هذا العدد قليلا للغاية خاصة أن تعداد يهود هذه المنطقة كان يقدر بـ ٨٠ ألف يهودي".

هذا يعني أن أقل من 1 بالمائة فقط من يهود المغرب العربي وافقوا على الهجرة إلى فرنسا والحصول على جنسيتها وفضل 99 بالمائة من اليهود هناك البقاء في الجزائر وتونس والمغرب.

ويقول المؤلف عن مصر: "ويفيد الإحصاء السكاني الذي أجري في عام ١٩٣٧ أن نحو ٦٠ بالمائة من يهود مصر أي نحو ثلثي يهود مصر اشتغلوا بالتجارة ولكن كان معظمهم من التجار الصغار ومع هذا فإن أهم ما يميز تاريخ يهود مصر في العصر الحديث أن أعدادا ضخمة منهم اشتغلت في البنوك والشركات المالية وفي مجال الصناعة التي جذبت بمفردها ٢١ بالمائة من التعداد الكلي للموظفين اليهود. وأسهم يهود مصر في تطوير صناعة الغزل والنسيج ومصانع السكر وفي تشييد خطوط السكك الحديدية وفي إدارة بعض البنوك الضخمة في مصر مثل البنك الإنجليزي المصري (والمعروف حاليا باسم البنك الأهلي المصري) والبنك المصري للقروض والبنك الزراعي. وظهرت خلال هذه الفترة طبقة من الرأسماليين اليهود كان من أبرزهم عائلات قطاوي ودي منشه وهاده وموصيري وهراري ورولو وسوارس وشيكوريل ومندلباوم وهوروفيتس.

وكانت الطائفة اليهودية في مصر تتميز عن غيرها من الطوائف اليهودية في البلدان الإسلامية بأنها كانت الأكثر ثراءً، ولكن كانت توجد في داخلها العديد من الفروق الاجتماعية ولم تقتصر هذه الفروق على الفروق الاقتصادية التي أدت إلى خلق حالة من الانفصال بين فقراء الطائفة الذين عاشوا في الحارة والأثرياء الذين عاشوا في الأحياء الراقية في كل من القاهرة والإسكندرية، وإن تزايدت نتيجة لبعض الخلافات الطائفية بين اليهود السفاراد واليهود الأشكناز كما كانت هناك العديد من الخلافات والتناقضات السياسية التي حدثت نتيجة للاختلاف في الانتماءات الثقافية والسياسية".

لسنا مدينين لأحد بالاعتذار، إن بعض الأفعال الفردية هنا وهناك لا تعبر عن ثقافة أمتنا، بقدر ما تعبر عن ثمار مريرة للهمجية الغربية التي تدعم وتساند وتؤيد وتبارك وتغطي المستبدين.

وبعد.. فهذا تاريخنا وتاريخهم القريب شاهد وموثق على ثقافتنا وثقافتهم، بعيدا عن التحايل السياسي أو التضليل الإعلامي. تاريخ أمتنا لم يعرف الاضطهاد العرقي، أو حملات الإبادة أو التمييز العنصري. أمتنا لم تعرف إغلاق حدودها وأبوابها أمام الفارين من الحروب أو موجات اللاجئين، أو تقديم الحسابات الاقتصادية على أرواح النازحين والمقهورين. إن محنة اليهود الأخلاقية ستظل وصمة ملتصقة بهم، أنهم جبنوا عن مواجهة من أذاقوهم ألوان القهر والخسف وأصبحوا لا يصفونهم الآن إلا بمصطلح "العالم الحر"، بينما انتقموا وشردوا ونهبوا وسلبوا بلادا أحسن أهلها إليهم عبر قرون طويلة.

إن أمتنا الآن في أضعف حالاتها، ومع ذلك يسعى البعض لوصمها بالإرهاب والوحشية، وهي اتهامات ينفيها التاريخ القريب والبعيد. لسنا مضطرين للدفاع عن أنفسنا أو تصديق المتخرصين بأننا مذنبون. غيرنا من ارتكب مجازر دير ياسين وصابرا وشاتيلا وسربرينتشا وقتلوا عشرات الملايين من البشر في حربين عالميتين وأثاروا حروبا دامية في إفريقيا البائسة من أجل السيطرة على ثرواتها الطبيعية.

هذا شأنهم أن يكون المعيار هو المصالح البحتة وحسابات المال، لكن إذا فعلوا هذا فمن السخف أن يعطونا دروسا في الأخلاق. لسنا مدينين لأحد بالاعتذار، إن بعض الأفعال الفردية هنا وهناك لا تعبر عن ثقافة أمتنا، بقدر ما تعبر عن ثمار مريرة للهمجية الغربية التي تدعم وتساند وتؤيد وتبارك وتغطي المستبدين، فتتولد عن جرائمهم وظلمهم مثل هذه الأحداث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.