شعار قسم مدونات

العلم ومشكلات العالم المستعصية

BERLIN, GERMANY - APRIL 26: A visitor uses a virtual reality headset and touch controllers to play a shooting game at the Making Games conference during International Games Week on April 26, 2017 in Berlin, Germany. The event is intended to showcase independant video game design in a city known for its technology and Internet-related startups. (Photo by Adam Berry/Getty Images)
هل تفكرت يوماً بالعالم من حولك؛ في التكنولوجيا وسرعة تطورها، في الطب وقدراته العلاجية الرهيبة. قل لي هل تفكرت يوماً بهاتفك كيف يعمل؟ وسيارتك كيف تسير وكيف تمكنت كتلة حديد من الطيران، هل تساءلت يوماً من قام بذلك كله ولمًٙ يفعلون ذلك. بدأ كل ذلك بفكرة، محاولة فهم جدية لسنن الكون وأسرار الحياة على الأرض. تعلم البشر من تجاربهم فيها، تناقلوا خبراتهم فكانت الحضارات والثقافات.


كان ديدن البشر وقتها، السير قدما، حافزهم العمل والاكتشاف لحل مشاكلهم وطبقوا بفطرتهم أفضل نموذج في التعليم؛ إدراك وجود المشكلة أولاً، التجربة والخطأ لحلها ثانياً، حفظ معارفهم ومشاركتها للأجيال القادمة ثالثاً. كنتيجة لما سبق ظن البشر بأنهم نضجوا، قسموا الأدوار ورغبوا بالراحة والاستجمام، أُنّشِئت أنظمة، سنَّت قوانين وصُكت النقود فنظم العمل دولياً. يسير العالم اليوم ضمن منظومة دقيقة من قواعد وإجراءات -بروتوكولات- مالية قبل أن تكون سياسية، تعليمية قبل أن تكون صحية وحتى رياضية ترفيهية قبل أن تكون تنموية ليمتد تأثير المنظومة الفكري والمادي على عقول البشر وتوجهاتهم.
 

هل يخلو العالم من المشاكل الآن، هل اختفت الأمراض وتوقفت المجاعات أم ضاق بنا الوقت لحلها، أم هو الغِنى والشهرة تغوينا فتناسينا سبب وجودنا هنا على هذه الأرض؟

ولعل أهم منتجات هذه المنظومة هو التعليم . نرسل أبنائنا لاثنى عشرة سنة ليدرسوا ويتعلموا مجموعات فكرية منظمة ونتاجات بحثية إستقصائية تنبئية رضيت عنها المنظومة العالمية لتصنع بذلك نسخا بشرية جاهزة للعمل بمنشآتهم الحكومية ومؤسساتهم ومصانعهم الخاصة؛ هم نسخ مطابقة فكريا يمكن توجيهها سياسياً وتؤدي ما طلب منها عمله بكفاءة وإتقان.
 

هل تفكرت يوماً بمنظومتنا التعليمية وبُعدها الجلي عن ديدن العلم الحق ألا وهو حل مشكلات العالم المستعصية. إذن دعني أحدثك عنها وعن التعليم كما يجب أن يكون. يقول كارل ساقان: "نحن نعيش في مجتمعٍ معتمدٍ على العلوم والتقنية بشكلٍ رائعٍ، والذي لا يعرف أيّ أحد فيه أيّ شيءٍ عن العلوم والتقنية".

أنتجت هذه المنظومة مجتمعات جديدة؛ الصناعات فيها مكررة والعلوم تقليدية تدرس نسخا في المدارس والجامعات، تغيرت العلوم من التجربة للتلقين فتناسخت الدول أفكارها، لتقارب حدودها وتطور وسائل تواصلها، وتزايدت ثقافة الاستهلاك الأعمى وتكديس الأموال؛ فتوقفت الحضارة عن التجربة والإنتاج منذ سنين، بدأت بقيلولة وهي الآن ثابتة في غيبوبة.
 

كم من المشاكل حللنا للعشرين سنةً الأخيرة، تطورت وسائل الإعلام وأنتشر الحاسب لكننا كبشر – كمجتمعات – هل تطورنا؟ هل هذا حقيقي، تصرف الأموال الطائلة في سبيل منتجات ترفيهية تافهة لا أجرؤ على وصفها بكمالية حياة؛ يملّها الأطفال بساعات بينما هناك أُناس في غربِ الأرض وشرقها بلا مسكن في الشوارع نائمون؟ هل يخلو العالم من المشاكل الآن، هل اختفت الأمراض وتوقفت المجاعات أم ضاق بنا الوقت لحلها، أم هو الغِنى والشهرة تغوينا فتناسينا سبب وجودنا هنا على هذه الأرض؟

ونحن كمسلمين فقد حثنا الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم على إعمار الأرض ونهى عن الإفساد فيها ولنا في أجدادنا الأوائل فخر وعظة. فقد قال تعالى: "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" – هود: 61، "وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" – البقرة: 60، "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" – الأعراف: 566.
 

يقول الدكتور محفوظ ولد خيري في مقاله عمارة الأرض في الإسلام: تشريعات الإسلام مليئة بالتقعيد والتنظير لإعمار الكون بأفضل منهج متوازن يحقق الاستقرار النفسي والروحي للكون وساكنيه، فقد حث أبلغ الحث على بذل الجهد واستفراغ الوسع في إعمار الأرض حتى في أحلك الظروف، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" – أخرجه أحمد (3/1911).

والبخاري في الأدب المفرد (1/1688)، وحثّ على الزراعة وتشجير الأرض منعا للتلوّث؛ ونشراً للخضرة والخير، حيث قال صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة "رواه البخاري (2/ 817)، وعند مسلم: " ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة "أخرجه مسلم (3/1188، رقم 1552).

تناسخت الدول أفكارها، لتقارب حدودها وتطور وسائل تواصلها، وتزايدت ثقافة الاستهلاك الأعمى وتكديس الأموال؛ فتوقفت الحضارة عن التجربة والإنتاج منذ سنين، بدأت بقيلولة وهي الآن ثابتة في غيبوبة.

ميز السابقون الأوائل دافعهم ألا وهو البقاء على قيد الحياة والاستمرار عمارةً الأرض ودرئاً للمفاسد، فخاضوا بذلك تجارب صقلت فكرهم فطورت سلوكهم. أما عن الآن فيعيش البشر على بقايا الأولين، ناسخين كسالى دافعهم المال والنوم والاستجمام، تقليدا لسلوك الآخرين؛ تلبية لرغبات أساسية واحتياجات عاطفية بلا آمال أو أحلام مستقبلية.
 

يجب علينا أن نعود لجذور وجودنا وديدنها على هذه الأرض بتعليم أبنائنا سبر أغوار الأرض وأسرارها متعلمين من تجارب السابقين بدلاً من تلقينهم معلومات جوفاء لسنين فيكونوا بها عبيداً للنظام ولا يتم ذلك إلا بمنظومة تعليم جديدة لتنوير الأجيال وتوسيع مداركهم بمشكلات العالم بشتى أنواعها، موزعين الأدوار من مراحل مبكرة عمرية وغمرهم بنطاق واسع فسيح من التجارب الجديدة المبنية على تنمية رغبتهم بالاكتشاف وحل المشاكل لتكون ديدنهم ومصدر سعادتهم، ليكون عالمهم هو ملعبهم وهم اللاعبين فيه، لا مجرد متفرجين، أو قارئين ناسخين جامدين غير مفكرين.
 

إن حدث هذا عندها فقط قد يتغير العالم من جديد ونسعد بعملنا وتعليمنا وتسعد الأرض بنا وتعمر وتستيقظ الحضارة لتستمر في سيرها قدماً نحو المستقبل إن شاء الله ما بقينا أحياء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.