شعار قسم مدونات

التطبيع مع اليأس

blogs الأمل

يبدو أن حالنا اليوم أشبه بيوم صيف ساخن تشوبه غيوم داكنة ورياح وزخات رعدية، جو كئيب يحس فيه المرء بالاختناق والاكتئاب، يتردد فيه بين الحركة والجمود، بين الرضا والسخط، بين الحمد والشكوى، بين الاستسلام والمقاومة، بين الإقدام والإحجام. حتى وأنت تستنشق نسيم البحر على شطآن أوطاننا تتردد في تمييزه عن نسيم الضفة الأخرى وأنت تتساءل مع نفسك أيشبه نسيم الإفرنجة؟ وما بال أنوفنا لا تعشق سوى روائح ما يطبخ لنا من فتات؟ ولماذا لا تستنشق عبير الكرامة والحرية؟ ولماذا كلماتنا لا تبدع سوى في تحقير صورة ماضينا الذي نرى فيه "وامعتصماه" وبغلة الفاروق التي يخشى عليها أن تتعثر في دروب شاءت الأقدار أن تكون ساحة تخبطنا اليوم؟!

ينتابني إحساس أن هناك من يسعى جاهدا كي يقنع الناس أن لا أمل لهم في التغيير وأن يرضوا بما هو قائم وكائن، وأن طموحهم لغد أفضل هو طريق للمجهول. هناك من يريد أن يقنعهم أن اللحظة التي يعيشونها هي نهاية التاريخ، وأن ما نملك الآن من أفكار وبرامج وأشخاص هو أقصى ما يمكن أن يكون، وأن التغيير المنشود إما أن يحدث الآن (وهو مالم يحدث) أو لن يحدث أبدا (وهو ما يراد لهم قبوله والتسليم به).

 

إن زرع اليأس في القلوب والتطبيع مع الوهن والخنوع يؤدي الى أنانية مفرطة واندفاع نحو الهدم والتدمير والاستهانة بالنفس وبالقدرات التي وهبها الله في الإنسان

بل أصبح البعض يريد لهم أن يبكوا ويتباكوا على الماضي ويقتنعوا أن ما فات أحسن مما هو آت، وعليهم أن يقتنعوا أيضا أن التوزيع العادل للثروات خرافة، وأن الظلم الطبقي حتمية تاريخية، وأن مجرد الحلم بغد أفضل هو خيانة للوطن والدين. لذلك نجد أن هؤلاء لا يدخرون جهدا في قصف الناس بصور الأشلاء والدماء والبؤس وكأنها الصورة الذي يراد لها أن تسوق لأي محاولة تريد التغيير نحو الأفضل. أما صور من يتلذذ بطيب العيش فهي أشبه بمائدة نزلت على هؤلاء وعلى الناس أن تنظر وتصفق ولا ينبغي للعابهم أن يسيل كي لا يعكر مزاج من سلم لهم الناس رقابهم.

لا يكتفي هؤلاء بزرع اليأس في الناس، بل يطالبونهم بالزرع الذاتي لكل ما يحطم الأمل في استنشاق هواء كريم نقي، وأن يمارسوا الرقابة الذاتية على أحلامهم، وأن يروا في كل وردة كابوسا، وفي عطر الأقحوان رائحة دم تم سفكه غدرا عندما أثبتت تحاليل مختبرات القمع أنه يحتوي على كريات الكرامة.

إن زرع اليأس في القلوب والتطبيع مع الوهن والخنوع يؤدي الى أنانية مفرطة واندفاع نحو الهدم والتدمير والاستهانة بالنفس وبالقدرات التي وهبها الله في الإنسان. إن الخوف من أية محاولة للتغيير تجعل الفرد يستعدي أي بصيص أمل في التغيير وتجعل منه عنصرا فاعلا في صناعة وتأصيل الفساد في المجتمع، ومدافعا شرسا عن الظلم والظالمين. إن من تمكن اليأس منه لن يجد حرجا في الاستمتاع بالفوضى التي تعم المكان، ولن يفقد شهيته وهو يفطر على أصوات النحيب والعويل.
 

إن أية محاولة للإصلاح والتغيير بجب النظر إليها على أساس أنها تجربة بشرية تخطئ وتصيب، وأن من يتصدر المشهد التغييري الآن ما هم إلا بشر خلقوا لزمن معين يخطئون ويصيبون ولا يملكون أن يوقفوا الزمن

إن الخوف من رؤية قمة الجبل تؤدي حتما إلى عدم رؤية أبسط ما يحيط بعيوننا التي لم تعد تملك ما يكفي من الدموع كي تسقي أحلامنا. لا بد من الممانعة والمقاومة النفسية لهذا التطبيع، وأن نعي أننا نعيش مخاضا طويل الأمد يتطلب صبرا يثمن كل محاولة راشدة للتغيير. فما أحوجنا لمفاتيح المنازل التي حملها الفلسطينيون معهم عندما تم تهجيرهم من أراضيهم وهم كلهم أمل أن يرجعوا يوما، وما أحوجنا إلى بذور ننثرها على قارعة الطريق ونحن نرحل إلى كهوف البؤس والحرمان لعلها تنبت نجوما توجه طريقنا عندما نعود.

إن أية محاولة للإصلاح والتغيير بجب النظر إليها على أساس أنها تجربة بشرية تخطئ وتصيب، وأن من يتصدر المشهد التغييري الآن ما هم إلا بشر خلقوا لزمن معين يخطئون ويصيبون ولا يملكون أن يوقفوا الزمن. إنه من الانتحار الجماعي أن نوقف عجلة الزمن على عقارب ما هو كائن وأن نقتل في أنفسنا الأمل في التغيير الإيجابي وأن نحيي فينا الخوف من المستقبل بعد أن تخلصنا منه منذ بضع سنين..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.