شعار قسم مدونات

الآفاريون الجبليون..

مدونات، ثورة
الآفاريون الجبليون.. الذين كانوا يؤمنون بأن وجع الرأس لا يداويه سوى ذبح خروف أسود.. والأطباء الشعبيون.. أولئك الذين مارسوا كل ما لديهم من خيال وخواطر لمداواة الناس بالحيلة..كانوا يعصبون رأس المريض الذي يؤلمه رأسه بجلد الخروف، ويحبسوه ليومين على رأسه، أما اللحم فكانوا يأخذونه إلى بيوتهم..
 
لا بأس.. تطورت أحوال الطب، من لحم الخروف الأسود إلى البلاسيبو، أو العلاج بالوهم، ويرى العلماء أن البلاسيبو يؤثر إيجابيا في العلاج بنسبة 30 بالمائة، الغريب في الأمر أن السياسيين الرسميين والحكوميين أفادوا كثيرا من هذا الطب العجائبي، وأدخلوا تقنياته في العلاجات الشعبية للأزمات..

حكوماتنا ورئاساتنا وممالكنا وجمهورياتنا العربية الرشيدة.. مارست علينا هذين النوعين من العلاجات، فعصبت رؤوسنا بالجلود والقشور، بينما أتخمت هي ونخبها، بالدسم وكل إمكانات الوطن ومقدراته، وخدعتنا بالعبارة الشعاراتية العربية حفظ المكتسبات الوطنية، ولم نكن نعلم أن عبارة من هذا النوع الشعاراتي كانت مجرد خدعة أو تزويغ لنظر الرقابة الشعبية على تواضعها..

الشعوب تمكث في أماكنها تنتظر مواعيدها، يبدو كحجر الرحى.. يطحن كثيرا من الأروح ونضع ذلك تحت تفسير أن للثورات ضحايا، وللمستقبل الذي تسكنه أحلام تجربة الحياة الأفضل ضريبة يجب أن تدفع.

ربما كانت شعبيتنا فيها نوع من السذاجة أو البساطة الشعبوية، حتى خُدعنا كل هذا الزمن بكل هذا التسطيح القبيح لمعاني وطنية من مثل (المكتسبات والمقدرات والإنجازات) وسكتنا عن كل هذا الذي يحدث وسيحدث.. لا بالعلاج الآفاري، ولا بالعلاجات الإيحائية الوهمية، فيما يتعلق بالإصلاح وتوهيم الشارع العربي بأن ثمة رغبة أكيدة وإرادة سياسية للإصلاح، بفواتح حسن نية..

كل ما حولنا يبدو خدَّاع وزائف، حتى الدم المسفوح ثمنا للثورة، عملوا على التشكيك به، والتشكيك بالثورة كلها، حتى تأجل لدينا الإحساس بها على أساس يقيني بقدرتها على الإنجاز وتحدي الوهم، .. وهم الثورة أو الثورة المشكوك بها وبقدرتها..

حين ابتدأت هذه الثورة كنا ننظر إليها كالمعجزات، واكثر ما يدهش المرء بالمعجزات أنها تحدث، حسب الحكيم والكاتب الإنجليزي جي كيه شسترتون.. والتناول الكثيف للثورات وتبعاتها ونتائجها ومصائر أهدافها كل هذا ينبئ عن بقايا دهشة في الشعوب، ربما لأنه للآن لم يتغير شيء، أو لم يتحقق شيء سوى الإطاحة بدكتاتوريين..

وكلمة سوى هنا تنتج سؤالا تلقائيا.. هل يكفي هذا..؟ هل غاية الثورة أن تسقط دكتاتورا..؟ وماذا بعد؟ كما في مصر وتونس.. وليبيا واليمن وسوريا والعراق، إننا للأن ما زلنا على الحافة، والطريق ما زال طويلا، وغياب الرؤية يعد مأزقا خطيرا، فحين يكون المعنى الأكثر تداولا للثورة هو المعاناة يكون الهدف هو التخلص من أسبابه، أما حين يصير هدف الثورات تجربة حياة مستقبلية أفضل – حسب إيريك هوفر – فإن ضرورة وجود رؤية مكتملة للثورة أمر حتمي وضروري، وإلا ستبدو الثورات كما لو أنها دخول تلقائي في دائرة الوهم.

كل ما حولنا يبدو خدَّاع وزائف، حتى الدم المسفوح ثمنا للثورة، عملوا على التشكيك به، والتشكيك بالثورة كلها، حتى تأجل لدينا الإحساس بها.

الآن الواقع كارثي، الشعوب تمكث في أماكنها تنتظر مواعيدها، يبدو كحجر الرحى.. يطحن كثيرا من الأروح ونضع ذلك تحت تفسير أن للثورات ضحايا، وللمستقبل الذي تسكنه أحلام تجربة الحياة الأفضل ضريبة يجب أن تدفع..

المشكلة الأخطر أن العودة للوراء كارثية، واللحظة التاريخية بصورتها الراهنة لا تحتمل العودة للخلف، كما أن التقدم للأمام بلا مقومات أو رؤية واضحة، مخاطرة ومقامرة بمصائر الشعوب.. ليس هذا إمعانا في الوهم أو هروبا أو حتى تجنيا، لكن إن لم نستطع ان ننتج وعيا حقيقيا بكل الاحتمالات فسوف يفاجئنا الراهن بكثير من الأزمات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.