شعار قسم مدونات

من الأهم للفكرة؟ مبتكرها أم مقدمها؟

blogs فكرة

مر أمامي منذ أيام خبر على إحدى الصفحات الإلكترونية يتحدث عن أجور الفنانين في مسلسلاتهم الرمضانية لهذا العام، مما جعل ذلك السؤال الأزلى يتبادر إلى ذهني- بعد انبهاري بالطبع من ضخامة المبالغ- وهو (أيهما أهم بالنسبة للفكرة.. من يقدمها للجمهور أم من يبتكرها من العدم؟!). وقد تعرض العديد من الكتاب والفلاسفة والمؤرخين لمثل هذه النقطة الجدلية، لدرجة أنها كانت تسيطر على هتلر الذي قد ناقشها في أكثر من موضع بكتابه المعروف (كفاحي).

والحقيقة التي توصل إليها العديد من أصحاب الرأي أنه لا غنى لصاحب الفكرة عمن يروجها له بصورة تلقي استحسان الجمهور.. فعلى سبيل المثال المؤلف لا غنى له أو عنه للممثل ولا غنى لهم أو عنهم للمخرج والكل يعمل في منظومة يكمل بعضها البعض تحولت مع الوقت إلى ثقافة سميت بال "Team Work" أي العمل الجماعي، بينما على العكس عندنا، نجد أننا ما زلنا تحت تأثير ثقافة "One man show" أي النجم الأوحد. وهذا ما يبدو جلياً في تلك الأعمال الرمضانية وطريقة الإعلان عنها قبيل عرضها.
 

لا أنكر أن موهبة الممثل أو المطرب تلعب دوراً مهماً في الوصول للجمهور لكن ما يحزنني أن الجمهور لا يهتم بمعرفة من مؤلف الفكرة مبتدعها من العدم وينسب كل المجد والخلود للشخص "المؤدي" لها فقط

في بلادنا ترتبط قيمة العمل الفني بقيمة النجم المشارك فيه ويتم ربط العمل باسم هذا النجم الأوحد بل ويتم أيضاً بعد ذلك اقتباس بعض من كلامه ووضعها على صور لتكون أمثال أو حكم معينة يرددها البعض ولربما أصبحت جزء من الكلام الدارج في حياتنا اليومية. في هذه اللحظة أحاول أن أصل لشعور المؤلف أو السيناريست.. هل سيكون الفرد منهم متأثراً ممتعضاً أن كلامه ينسب لغيره وينال به مجداً يخلد به مثل الجمل السينمائية الخالدة التي نتذكرها بأسماء الممثلين لا المؤلفين.. أم أن سعادة المؤلف تكمن في ترديد كلامه وأفكاره دون النظر إلى من ينقلها وتكون هذه كل غايته؟!… في الحقيقة لا أعلم ولو صادفت مؤلفاً مشهوراً لكان هذا أول ما سأطرحه عليه قبل أن ألتقط معه صورة تذكارية.

والأمر ينطبق بالمثل على الغناء، فتجد الجمهور يتذكر "الكوبليه" أو المقطع الرائع من الأغنية المؤثرة على لسان المطرب المفضل ولا أحد يذكر أي طيف للشاعر صاحب الكلمات. فيقول الناس "زي ما فيروز قالت" أو "لما أم كلثوم قالت ".."أحمد ذكي قال" وهكذا.. وأصبحت الجمل والمقاطع الرائعة تنسب إلى من قالها لا من كتبها. لا أنكر أن موهبة الممثل أو المطرب تلعب دوراً مهماً في الوصول للجمهور لكن ما يحزنني أن الجمهور لا يهتم بمعرفة من مؤلف الفكرة مبتدعها من العدم وينسب كل المجد والخلود للشخص "المؤدي" لها فقط.

الأمر أشبه بلاعبي كرة القدم، فهناك صانع الألعاب الذي يجتهد ويراوغ أكثر من لاعب ليمرر الكرة للمهاجم منفرداً أو كما نقول في مصر "يديها له متقشرة" فيحرز هدفاً تهلل له الجماهير ويُخلد التاريخ اسم المهاجم لأنه أهدي فريقه هدف الفوز فأحرزوا بفضله البطولة. في الحقيقة أجد تلك الفكرة تزعجني كثيراً، لأني أحس أن هناك شخصاً ما يُبخس حقه بصورة علنية، وأري أن هناك مجهولون مبدعون يستحقون مزيداً من الاهتمام والتقدير من أجل أن يستمروا، فمتعة أي مبدع هو عندما يجد صدى عمله ينعكس في الجماهير وتذكره به وتشكره عليه.

ومع كل احترامي للسيدة أم كلثوم مثلاً وفنها، فأكاد أجزم أنها لم يكن باستطاعتها أن تأتي بكلمات منمقة تتغلغل في النفوس لتتخلد مثل كلمات أحمد شفيق كامل حينما قال "وانت معايا يصعب عليا رمشة عنيا لو حتى ثانية"  أو كما قال المبدع مرسي جميل عزيز في وصفه الذي جاء به من دهاليز العشاق والمشتاقين "اهل الحب صحيح مساكين.. الى بيشكي حاله لحاله والى بيبكي على مواله ".

والحال مثله في مطربي الأجيال المعاصرة كالأسطورة عمرو دياب، فمع كل تقديري لتاريخه، لا أعتقد أن بقدرته أن يكتب شعراً بروعة كلمات بهاء الدين محمد مثلاً كما في تساؤله "قاللى الوداع وهقول له ايه ؟! هو الوداع يتقال فيه ايه ؟!!" وأيضاً الشاعر محمد رفاعي وروائعه في البومات قمرين وعلم قلبي كذلك في الأفلام الخالدة مثل: (الكيف) و(العار) للمؤلف محمود أبو زيد و(الكيت كات) للرائع داوود عبد السلام أصبح يتم تداول الجمل المهمة أو القفشات المضحكة التي أصبحت جزء من وجدان الشعب المصري وطريقته في التعبير من على لسان محمود عبد العزيز ونور الشريف ويحيي الفخراني.
 

يجب عليك كمشاهد واعٍ إذا أعجبك عمل فني غيّر لك نمط تفكيرك أو أوضح لك نقطة مبهمة أو حتى كان موسيقي ولحن أطربك أو مجرد "افيه" جعلك تضحك وتنسي همومك، فعليك أن تدرك أن هناك شخص ما فكر ونمق كلامه ليصل لك ويدخل إلى أعماقك

ليس معني كلامي التقليل من شأن هذا الممثل أو ذاك المطرب لكني اعتبرهم في خانة "المؤدي" الجيد الذي وهبة الله قدره على الإقناع لكنه مازال في رأيي ليس بمثل المؤلف المتمكن الذي يأتي بالكلام والجمل القوية لتؤثر في النفوس وتغير الأفكار وتشكل جزء من الثقافة والوعي، وهذا هو دور الفن في تطوير الشعوب. وليس معني كلامي أيضاً أنه لا يوجد فناناً مثقفاً فهناك أمثلة عديدة؛ لكن الفنان المثقف أصبح فئة نادرة في فترتنا الحالية ويظهر هذا بوضوح في اللقاءات التلفزيونية وطريقة ردودهم على أسئلة الحوارات التي يتم مناقشتها معهم.

ولذلك فإنه يجب عليك كمشاهد واعٍ إذا أعجبك عمل فني غيّر لك نمط تفكيرك أو أوضح لك نقطة مبهمة أو حتى كان موسيقي ولحن أطربك أو مجرد "افيه" جعلك تضحك وتنسي همومك، فعليك أن تدرك أن هناك شخص ما فكر ونمق كلامه ليصل لك ويدخل إلى أعماقك.. ووجب عليك أن تقدر هذا الشخص جيداً وأقل ما تقدمه له هو أن تعرف أسمه، طالما نعيش في مجتمع تتم فيه صناعة النجم بمعايير مختلفة ويتم اتباع سياسة النجم الأوحد فقط. فعندما نصل لمرحلة أن يهتم المشاهد بصاحب الفكرة وليس المؤدي لها وعندما يتم تعريف العمل بالكاتب أو الشاعر وليس الممثل أو المغني وقتها سيكون لدينا مشاهد واعٍ ومثقف مما سينعكس بالتأكيد على صناعة الفن بشكل عام وإيجابي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.