شعار قسم مدونات

عن الغرور الذي قد يُصيبنا

blogs قراءة

في بدايةِ عهدي مع الكُتب -ولا زلتُ- كان يُخيّلُ إليّ بأنّي خيراً من الأخرين، وأنّي الوحيد في هذه الرقعة من الأرض الذي يقرأ ويتعلمُ ويطّلع، فيما البقية يعيشون في جهلهم وظلالهم، تابعين شهواتهم لا يأبهون بالعلم ولا بالنظريات ولا بالفلسفة التي أفنى العلماء والفلاسفة حياتهم لأجلها. وكان يحلو لي -أنذاك- أن أجادل الكثير مِن مَن حولي، شاطحاً بآرائي التي كنتُ أحسبها آراءً جديدة لم ينتبه لها حتى أولئك العظماء الذين كتبوا الفكرة نفسها، مستفزاً من أجادلهُ بتطرف أرائي، ولكم كان يطيبُ لي أن أرى من أمامي يفقدُ أعصابه شاتماً إياي أو مكّفراً إياي، كنتُ أستمتعُ باستفزازهم، وكنت أزهو عندما أعرف أني أصبحتُ حديث مجالسهم.

مرحلة العجب والغرور يمرُ بها الكثير متفاوتةً في مقدار طولها وأيضاً مقدار حدتها، والإنسان كما قيل يصيبه الغرور في مراحله الأولى من تعليمه، فترى الشيخ حديث الدراسة يُسابق للفتوى، أو الباحث يأخذ جزء من المسألة ليتحدث عن الكل، ثم بعد أن ينهل هذا الإنسان من المعرفة أكثر يصبح أكثر تواضعاً بالتالي، إلى أن يصل إلى قول أحد الفلاسفة الذين قضوا حياتهم للعلم والمعرفة فيقول (أنا لا أعرف من المعرفة إلا اسمها)، وهذه المرحلة يكون فيها المتعلم قمةً في العلم وقمةً في التواضع.

هذا الغرور الذي قد يُصيبنا إنما هو آتٍ من حب الظهور، وقد لاحظ العالم أبرهام ماسلو في هرم الحاجات الإنسانية عندما وصل إلى مرحلة (تقدير الذات) أن الإنسان في المراحل المبكرة من حياته يقدم تقدير ذاته على تقدير الأخرين ولكن عندما يتقدم بالعمر يصبح تقدير الأخرين هو الأهم لديه، والإنسان يحب أن يرى نفسه محط أنظار الناس واهتماماتهم وذلك حتى يشعر بتقدير ذاته، وفي هذه الحالة قد لا يهتم الشخص حديث المعرفة بالطريقة التي يظهر بها بقدر اهتمامه بمسألة الظهور نفسها، ولتكن ما كانت.

الحق أن أكثر ما كان يُطفئ غروري في تلك المرحلة -مرحلة الغرور- لم يكن النصح ولا الشتم وإنما (تجاهل) من أحاول استفزازهم، فالتجاهل في الحقيقة كان سبباً في عودة العقل والرشد إلي

النصائح قد لا تفيد في هذه المرحلة، فالمغرور يرى أنه فوق الناصح لذا فالقبول استحالة، والسب والشتم لا يفيدان قطعاً، لأن هذا هو بالضبط ما يبحثُ عنه المغرور، وسيستعرض أخلاقه في هذه الحالة ليكتب رداً أخلاقياً متصنعاً عندما يبدأ كلامهُ ب(يا عزيزي المسألة ليست كما تعتقد أنت) لكنها كما أعتقد أنا، وإذا استمر الحال على هذا المنوال – نصائح وشتم – قد يأتي اليوم الذي يزداد شطح المغرور فيه فينشر كاتباً (وإني لأرى الله في كوب النسكافية التي أشربها صباح كل يوم) وهو في الحقيقة لا يعرف النسكافية، ولا يعرف الله أيضاً.

والحق أن أكثر ما كان يُطفئ غروري في تلك المرحلة -مرحلة الغرور- لم يكن النصح ولا الشتم وإنما (تجاهل) من أحاول استفزازهم، فالتجاهل في الحقيقة كان سبباً في عودة العقل والرشد إلي، وهذه الطريقة الوحيدة التي أرى أنها الأصح للتعامل مع أمثالي سابقاً. المشكلة ليست في من استطاع أن يتجاوز هذه المرحلة التي أحسبها متلازمةً عند الجميع، بل في أولئك الذين طالت عليهم المدة والحدة حتى أصبحت لديهم سجية ما تفتأ تنفكّ عنهم، أولئك الذين تقدّم بهم العمر من غير أن يتقدم بعقولهم وأفكارهم، الذين يستفزوننا بأطروحاتهم ونقاشاتهم المغرورة، أما آن لكم أن تلحقوا أعماركم؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.