هل شممتم رائحة الخرطوم بعد المطر لتفهموا قصدي؟ هل ذهبتم إلى الجامعة وأنتم تتنشقون عبق التراب الممزوج بعطية الله؟ إذن لن تفهموا ما أعنيه، هل علي أن أخبركم أنني رأيت الجمال هناك كما لم أره هنا وأن في بناتها السمراوات ما يفوق الكثيرات من البيض بمراحل، هل تتخيلون كيف يمتزج الكحل بالكحل؟ أو كيف تتألق العيون الكبيرة الحوراء كما يتألق البدر في صفحة السماء؟؟
أصبحت أتغنى بالنيل وأخطط لزيارة "ود مدني" و"كسلا" و"بورتسودان" في الإجازة، وأحتسي الشاي باللبن كل صباح، وأعرف كيف الزلابية من عند "ست الشاي". |
هل رأيتم مئة ظفيرة مغروسة كما باقة زهر في رحاب بستان؟؟ لم تروا، ولو رأيتم لعرفتم ما أقصد، أتعرف أيها المتعجرف ذو البشرة البيضاء والعقل الخواء أنني وجدت هناك من أصحاب الوجوه السمر من يوزع أدبا وجمالا ودينا وعلما وتعاملا عليك وعلى مئة من أمثالك، لا أنكر ضيق صدري حين أخبرت أهلي أني مسافر إلى هناك.
في الشهر الأول من الجامعة كنت أتغيب كثيرا وأنام في القاعة كثيرا، فالحرارة المرتفعة كانت كفيلة بذلك، و كنت لا أفهم من الكلمات سوا نذر يسير، ونادم أنا الآن لأنني لم أعش ذاك الشهر كما الباقي، كنت محط اهتمام في الجامعة لم يتوانى أحد عن مساعدتي، شهر وبدأت أتقن فنون التعامل، تعلمت كيف السلام في السودان يكون.
أعفاني الأساتذة من بعض الأشياء الجديدة علي لكنني أصبحت أعملها طوعا وفخرا، وأعي كل حرف بين طياته، وأصبحت أفضل قول "يازول وأحيي انا" بدلا من الكلام بلهجتي، وصرت أجلس على العشب لأدرس مع أصدقائي، وليسوا أصدقاء فقط .. للمرة الأولى أجد من يستطيع أن يفهمني، من لا يحقد ولا يعرف اللؤم ولا الكره..
أصبحت أتغنى بالنيل وأخطط لزيارة "ود مدني" و"كسلا" و"بورتسودان" في الإجازة، وأحتسي الشاي باللبن كل صباح، وأعرف كيف الزلابية من عند "ست الشاي" نكهة أحلى من كل حلويات الأرض. أصبحت أشتري الفولية وعيش الريف بعد الجامعة. وأتحلى بقصب السكر وأنا أدندن " جناي البريدو"، تعجب من حولي لتبدل حالي وتعجبت أنا كيف لم أكن على هذا الحال من قبل!!
هل شممتم رائحة الخرطوم بعد المطر لتفهموا قصدي؟ هل ذهبتم إلى الجامعة وأنتم تتنشقون عبق التراب الممزوج بعطية الله؟ إذن لن تفهموا ما أعنيه! |
كنت مرة في نزهة مع أصدقائي، كنت مندمجا معهم أترغل السودانية وأتفاعل معهم بشغف شديد، أذكر أن مجموعة من الشباب اليمنين كانوا واقفين، وأخبرني صديقي في ما بعد أنهم تهامسوا فيما بينهم "شاب يمني والهيئة سودانية"، يبدو الموقف مثيرا للغضب لكنني شعرت بالفخر عوضا عن أن أغضب. كيف للمرء أن ينسى وطنا عاش فيه.. عاش في كما عشت أنا بين ربوعه وعرفت تفاصيل حضارته وعاداتها وتقاليدها.
كيف لي ألا أبكي وأنا أذكر كيف ودعت أهلي هناك وأستحضر وأحصي الدمع الذي ذرفته ولم أذرف مثله في عمري من قبل، لم ولن تعرفوا ولكم الحق في ذلك، أما الذي أعرفه أنا، أن لي بلدا آخر كان فضله علي كبيرا لن أنساه ما عشت دهري. والذي لن يعرفه العالم أجمع كيف لتلك الوجوه السمراء أن تحمل قلوبا لا يشوبها سواد. إن كانت السودان قد حرمت من هطلات الثلج، فذلك لأن الله قد وضع الثلج النقي الأبيض هناك، في اليسار من صدورهم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.