شعار قسم مدونات

الزَّبيب والبيضة!!

مدونات - العلماء
تبنَّاه شيخه منذ صباه ليتفرَّغ لطلب العلم، وكان بعض أهله يحاولون أخذه من حلقة العلم ليعمل من أجل الإنفاق على أهله، فيتمسَّك به معلمه ويعطيهم أجرة. ومرَّت الأيام والفتى يطلب العلم ويكون في مقدمة الحلقة، ويزداد إيمان شيخه به وبقدراته..

مرض الشاب مرَّة فجاءه كثيرون يعودونه لما يعلمون من تقديم الإمام له وحظوته عنده، فجاس بباله خاطر أن يُكوِّن حلقة علميَّة خاصَّة به ويكتفي بما تعلَّم من أستاذه. 
سأل أبو حنيفة عن تلميذه أبو يوسف الذي لم يحضر الدَّرس، فأخبروه أنه أنشأ حلقة خاصة به، فقال قوله الذي أضحى مثلاً: ( تزبَّب قبل أنْ يتحصرم) أي: أضحى زبيباً قبل أن يمر بالمراحل الطَّبيعية (الحصرم ثم العنب ثم الزَّبيب)، فلكل مرحلة أوان، فيطيب الثَّمر.
 
ثم أرسل أبو حنيفة شخصاً يحضر حلقته ويستفتيه بمسألة وكان قد أخبره بجوابها، فعيي أبو يوسف الجواب وحار فيه، وفطن إلى أنَّ شيخه ومربِّيه أرسل السَّائل، عرف خطأه وعاد إلى الحلقة ينهل من علمه شيخه، حتى أجازه بأن يعلِّم، وأضحى مع الأيام قاضي قضاة بغداد في ذروة مجدها أيام الرَّشيد.

وهكذا درج السَّلف في طلب العلم والجد فيه، وأخذه من مصادره، مهما طالت السنون، ومهما كابدوا من مشاق، حتى يشهد لهم أهل العلم ويجيزونهم، فيحدثون ويفتون.. وفي سيرهم العجب العجاب في هذا. لأنَّهم يدركون أنَّ العلم أمانة، ولحمل هذه الأمانة الثَّقيلة عليهم دفع الثَّمن من وقتهم وجهدهم.. وهكذا نفع الله بهم.

درج السَّلف في طلب العلم والجد فيه، وأخذه من مصادره، مهما طالت السنون، ومهما كابدوا من مشاق، حتى يشهد لهم أهل العلم ويجيزونهم، فيحدثون ويفتون.

وفي زمننا هذا، أضحى أدعياء العلم كثر، والمفتون أكثر، وأضحى الدِّين الحلقة الأضعف الذي يتكلَّم به الجميع ويبدون آرائهم.. وإذا تتبعتهم وجدت الكثير والكثير منهم لم يطلبوا العلم حق طلبه ويجهلون أصوله وأسسه وقواعده. فمن قرأ كتابين أو حتى تغريدتين أصبح شيخاً ومفتياً!!

ومع الثورات العربية وخصوصاً السُّورية تلاحظ هذه الظاهرة بشكل لافت، وخاصة من بعض الجماعات التي وجدت فرصة للدخول.. فتجد الشباب – ممَّن لا يعرف عنهم سابق طلب علم ولا شهادة علماء معروفون إلا بعض من المجاهيل – يفتي ويرجح ويأوِّل ويفسِّق ويكفِّر.. وإن ناقشته اكتشفت ضعف أساسه وبنيانه، وقد تفحمه وأسهل ردِّه عليك أنَّك صاحب هوى..

وكثير منهم مرجعهم ودليلهم في العلم الذي يدَّعونه، أقوال بعض المشايخ الذين يحملون نفس الفكر، وما هم إلا نسخاً بشرية غيبوا عقولهم وحبسوها في صندوق أئئمتهم. وحتى الصغار والأغرار أضحوا أئمة!! وينطبق عليهم المثل الشَّامي: ( لسَّه ما فقس مِن البيضة).

إنَّ على أهل العلم الصادقين أن يبذلوا جهودهم لبيان مخاطر هذه الظاهرة على الأفراد والمجتمعات، وأن يقوم أهل العلم العاملين بدورهم في نشر العلم وبيان سنن طلبه. وعلى الشَّباب أن يتأمَّلوا في قصص وسير العلماء وطلبهم وجدهم في طلب العلم.. ومن استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.