شعار قسم مدونات

همسة في آذان فنانينا الشباب

blogs - ميكرفون
بقدر ما أُسَرُّ وأنا أتابع بعض فنانينا الشباب المتحفزين وسط الأجواء الفنية الراكدة، المتحمسين بين من هرمت فيهم الهمم وشاخت منهم الإرادات، بقدر ما أتخوف من أن تذهب بهم قلة الخبرة مذهب من سبقهم، أو يقعد بهم وَهْمُ "الوصول" عند الحدود الفنية التي لا تُقنع الخاصة وإن أبهرت بعض العامة، أو يجعلوا أصابعهم في الأذن التي يأتي من قبلها التوجيه أو النقد، فتُبنى شخصيتهم بناء هشا لا يلبث أن تتصدع أركانه. أقتصر في هذه الإطلالة على جانب واحد من الجوانب التي يحتاج فنانونا الشباب إلى إدراكها واستيعابها والعمل بمقتضاها حتى تُبنى شخصيتهم الفنية التي نتحدث عنها بناء سليما من أُسِّها إلى رأسها.

من ضمن ما يسعى إليه فنانونا الشباب اليوم أداءُ مقطوعات غنائية لكبار الأصوات في هذا العصر، رغبة في استعراض مهاراتهم الفنية، أو محاولة لاكتساب الخبرة بمطاولة العمالقة، أو عملا بما صار أمرا شائعا وتقليدا ذائعا في السهرات والمهرجانات والمسابقات.. وهذه وغيرها، لا جدال، مطالب مشروعة. غير أن محاولة تحقيق هذه المطالب بمجرد حفظ تلك المقطوعات بتكرار الاستماع إليها، ولو من حناجر أصحابها الأصليين، وبترديدها والاجتهاد في تلوينها كيفما اتفق دون علم بخطوطها التعبيرية، أَعُدُّهُ خطأً فادحا، ومقدمة غير سليمة لنتيجة لا تسر.

كان صوت أسمهان وخبرتها وتمكنها عاملا حاسما في ولادة هذه التحفة الفريدة، ولكنه صوتٌ وخبرةٌ وتمكنٌ كان الفضل فيه لأساتذتها الملحنين الذين احتضنوا موهبتها مشوبة، فصهروها وصقلوها حتى غدت على ما غدت عليه.

لن أتحدث هنا عن بعض الفنانين الشباب الذين يقلدون المقلِّدين بدل أصحاب القطع الأصليين، مصرين على أن هذا المقلِّد أو ذاك قد أتى بما لم يأت به صاحب الأغنية الأصلي، فيولد مولودهم الفني مشوها. لن أتحدث لا عن المقلِّد ولا عن المقلَّد! وإنما أستحضر صفحة من صفحات تاريخ الفن، علها تقرب الفكرة، وتقوي الحجة، وتشير إلى المقصود بدقة.

كنت قرأت، فيما قرأت قبل سنوات طويلة، أن الموسيقار رياض السنباطي مرّن أسمهان على مونولوج "أيها النائم" (1944) بحضور شاعرها أحمد رامي، وباتت أعين السنباطي، وهو يجتهد في تلقين الأغنية أسمهان وهي تتشرب كلماتها منغمة مِن فِيه، ورامي وهو يتابع كيف انتفضت روحها حية من تربتها.. قرأت كيف باتت أعينهم في دمعان ليلتهم تلك! والذي يستمع إلى "أيها النائم" يستفيق على سر ذلك "الاندماج" الكامل للأقطاب الثلاثة في أغنيتهم، ويعذر فيهم حالة "الوجد" التي سقطوا في أسرها، ويتفهم إلحاحي على ضرورة التلقي المباشر من فم لأذن، ومن روح لروح.

ذلك أن هذا الشاعر (رامي) الذي خفق قلبه بمعنى من المعاني طرق بابه، فغير حاله من حال إلى حال، فتجاوبت حناياه مع ما وقر فيه، وكتب ما كتب وكأنما يُملى عليه، وجد ملحنا خبيرا (السنباطي) يتقن ترجمة المعاني القلبية المبثوثة بين السطور من لغة الكلام إلى لغة الأنغام، نفخ في كل حرف من حروف القطعة من روحه حتى غدت كائنا حيا، وعرف كيف يلقن الصوت (أسمهان) مفردات المعاني المبثوثة في شعر رامي، وأسرار الأنغام المكنونة في لحنه، حتى تشربت القطعة منه تشربا كاملا في كلياتها وفي جزئياتها، فنقلت هي، باقتدار، الكلمات واللحن من حال الوجود بالقوة إلى حال الوجود بالفعل، ومن الزمن المثقل بجاذبية أشكال الحروف إلى الزمن المنطلق من أسرها بقوة محرك المعاني الساكنة في جوفها، فجاءت "أيها النائم" تحفة فنية خالدة لا يجدي تقليدها، إن أجدى، إلا في التذكير بها والإشارة إليها.

هذا مثال حي على وظيفة الملحن الخبير الذي يعرف كيف يبث روح كلمات الشاعر في أوتار الصوت المتغني بها. نعم؛ كان صوت أسمهان وخبرتها وتمكنها عاملا حاسما في ولادة هذه التحفة الفريدة، ولكنه صوتٌ وخبرةٌ وتمكنٌ كان الفضل فيه لأساتذتها الملحنين الذين احتضنوا موهبتها مشوبة، فصهروها وصقلوها حتى غدت على ما غدت عليه.

الملحن الخبير وهو يلقن المغني اللحن تلقينا مباشرا، إضافة إلى تقنيات الأداء الغنائي التي يمرن المغني عليها، يبث في كيانه الجرعة الروحية الضرورية لتذوق القطعة ولترجمتها ترجمة متقنة إلى أسماع الناس فتهتز لها أرواحهم.

استمع إليها في بداياتها الأولى ("عاهدني يا قلبي": 1931، ألحان زكريا أحمد، و"كنت الأماني" و"أسمع البلبل" و"كلمة يا نور العيون" 1933، ألحان محمد القصبجي).. ثم استمع إليها بعد ذلك في "محلاها عيشة الفلاح" و"مجنون ليلى" 1939، من ألحان عبد الوهاب، وفي "يا طيور" 1941، و"هل تيم البان" 1942، من ألحان القصبجي، و"حديث العيون" 1943، و"بنت النيل" 1944، و"أيها النائم" 1944 من ألحان السنباطي.. لتكتشف الحالة التي كان عليها صوتها وأداؤها قبل أن تؤتي مجهودات القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب أكلها، وهم الخبراء بالصوت، والمطلعون على أسرار الأداء، الذين تتحول الموهبة الصوتية المشوبة بين أيديهم تحفة صقيلة مبهرة. فلولا جهود ورعاية أرباب الصنعة هؤلاء لم يكن لأسمهان أن تصل إلى ذروة الأداء الصوتي وغاية الإتقان الغنائي.

إن الملحن الخبير وهو يلقن المغني اللحن تلقينا مباشرا، إضافة إلى تقنيات الأداء الغنائي التي يمرن المغني عليها، يبث في كيانه الجرعة الروحية الضرورية لتذوق القطعة ولترجمتها ترجمة متقنة إلى أسماع الناس فتهتز لها أرواحهم، وتتفاعل معها كياناتهم، وهذا هو المطلب العزيز.

إن الصوت الذي لم يتربع يوما بين يدي ملحن خبير، ولم يتعلم كيف يقعد مقعد التلميذ المتلقي مِنْ فِيهِ أستاذ معلم، صوت قد يتسع صيته ويكبر، وقد يكتسح اسمه الحواضر والبوادي في مرحلة ما، ولكنه يتسع على قشرة لا تلبث أن تمحوها عوامل التعرية، ويكبر عليلا بعلل لا يستطيع معها أن يقوم أمام الأجيال المتجددة مدرسةً تطلب اللجوء عندها هروبا من الأجواء الملوثة بالأصوات النشاز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.