شعار قسم مدونات

لن نفلت يدك

blogs - انتحار

 (1)
ماذا قد تتطلب حياة أفضل أكثر من ثلاث: الذكاء، الشجاعة، والفعل؟

(2)
"لو كنت مكتئبا، اطلب المساعدة، وتذكر…الانتحار حل دائم لمشاكل (مؤقتة)".  كلمة للممثل العبقري "روبين ويليامز" من فيلم "worlds greatest dad".. الخطوة الأولى هي طلب المساعدة، من قريب متفهم أولاً أو من طبيب متخصص وهو الأفضل إن كان متمكناً بالطبع. ولن أكون الأول في الإشارة إلى أن إحدى قيود الاكتئاب أو المرض النفسي عامة هو إيهامك أنك ثقيل على كل من حولك، أنك تشكل ضغطاً هائلاً عليهم، كما سيوهمك ألا أحد يمكنه مساعدتك، وألا جدوى من الطلب، وأنك حتى إن طلبت فالعلاج لن يجدي، لكن كما أقول هو مجرد "وهم"، سراب عليك أن تميزه.

ربما البدء بمقولة لممثل منتحر قد تبدو سيئة لكني على العكس أراها مناسبة لأذكر أن ذوي المعرفة بمدى الخطر المحدق بهم وطرق التصدي له، لهم لحظات ضعف لأنهم بشر، ولحظات الضعف تلك هي الخطر الحقيقي الذي علينا أن نتربص له نحن. (علينا أن نكون واعين تماماً لتلك اللحظات).

(3)

ابحث عن القطعة الناقصة وليس أية قطعة ناقصة بل التي لا يمكن لغيرها أن يملأ المكان الفارغ داخلك. الشخص المناسب لن تشعر معه بالوحدة، حتى وإن كنتما على بعد أميال.

"نجيب محفوظ" في "أصداء السيرة الذاتية" جعل إجابة الشيخ "عبد ربه التائه" على من قرروا التوقف حتى يعرفوا معني الحياة أن أجابهم: "تحركوا دون إبطاء فالمعنى كامن في الحركة". ولا يعني ذلك ألا تفكر، ولكن أن تفكر بينما أنت مستغرق بالحياة والفارق بينهما عظيم. بكلمات أخرى…"الحياة تأتي بالحياة".

(4)
الوحدة ستبقى دوماً من أقوى الدوافع وأكثرها هدوءاً في آن، لا أحد يستشعرها بينما تسيطر على القلب شيئاً فشيئاً كأنها قطرات الماء التي تفلق الحجر، لكن القلب ليس حجراً لينفلق إلى الأبد، وطبقات السواد التي تضعها الوحدة فوقه لا يمكنها أن تبقى إذا هو أراد عكس ذلك. تعلَّق بشيء ما، أحِب شخصاً ما، لكن ليس أي شخص.

ابحث عن القطعة الناقصة وليس أية قطعة ناقصة بل التي لا يمكن لغيرها أن يملأ المكان الفارغ داخلك. الشخص المناسب لن تشعر معه بالوحدة، حتى وإن كنتما على بعد أميال. الشخص المناسب سيملؤك به، سيمدك بالحياة التي تفقدها كل يوم، وهو الذي سيغلب خوفك عليه أي رغبة في الهروب أو الابتعاد.

(5)
لو كان دافعك الانتقام، لتؤنب ضمائر من أذوك؛ فأظنك تعلم تماماً أن جملة "الزمن قادر على دفن كل شيء" هي جملة صحيحة تماماً. لن يكون لانتحارك أثر إلا قليلاً، ثم ما سيلبث أن يوارى تحت طبقات من الزمن كما ستوارى تحت طبقات من التراب. ثم إن الانتقام لكلمة من شخص غاضب لا يعنيها أو حتى يعنيها، حتى وإن تعرضت لتحرش، لاعتداء أو لأذى فأنا وأنت نعلم ونسمع عمن تعرضن للاغتصاب الذي هو أقسى وأكثر الأفعال حيوانية وإثارة للاشمئزاز، ورغم ذلك صنعن تاريخاً كأن ما حدث ما كان إلا دفعة قدرية خارقة لهن. مهما كان ما تعرضت له من أذى بأي شكل معنوي أو مادي، انتقم لأجله لكن بالطريقة الأمثل والأٌقوى، لا تختر أن تكون ضعيفاً لأنك لست كذلك. 

(6)
الحياة متعة وألم، فلو كنت من سيئي الحظ الذين لا يعرفون المتعة إلا نادراً (وهم كُثُر)، فقد تجد في إيمانك عزاء إن كنت مؤمناً، وإما أن تخلق المتعة أنت قد ما استطعت، متى استطعت. حين قادنا الحوار فسألت صديقا من أسبوعين عن السبب وراء عدم انتحاره رغم مرضه أجابني إجابات لم تخطر على بالي لبساطتها فبدأ بأنه ليس ممنوعا من القهوة، ثم سرد أسماء من أشخاص مقربين له…"هم معي، متى أحسست أني أفقد رباطة جأشي حدثتهم، هاتفتهم ولو في السادسة صباحا، لا يحاولون تثبيتي ولكن فقط يشغلون بالي إلى حين". وأكمل أنه لا يزال يستطيع العزف على العود من حين إلى حين، لا يزال قادرا على حضور فيلم كلما اختنق.

الأسباب لم تبد لي بالقوة الكافية لكنها -ويا للعجب-كافية بالنسبة له درجة أن أحسست بإمكاني أن أعدد له أشياء أخرى كأن يسافر أو يجرب الغوص أو يحضر حفلاً موسيقي، لكن لا أظنه اختار هذه الأسباب لمجرد الاختيار.

(7)

أن حيوات البشر متداخلة إلى حد كبير، كأنها أحجار هرم كبير أو صغير على حسب عدد علاقاتك ومعارفك. قد نأخذ حجراً ونستخدمه في أي شيء آخر، لكن مع إزالته حتى وإن كان لا يحمل أحجاراً أخرى، فالهرم لن يعود كما هو أبداً

اختيار الانتحار ليس اختياراً يدل على الجبن بل بالعكس، هو اختيار ينم عن شجاعة، كما لا أظن غبياً سيفكر فيه؛ فالشخص القادر على إقناع ذاته بفكرة كتلك والصد والرد بين أفكاره المتضادة هو شخص ذكي على الأغلب حتى وإن ظن نفسه عكس ذلك حتى وإن فقد التركيز أحياناً.

التركيز الذي كان سينبهه إلى ضرورة وإمكانية وأفضلية تحويل ذلك الذكاء للبحث عن حلول أخرى وأفكار أخرى والخروج بألف طريق ليس من بينهم الانتحار والأذى. حسناً، لديك الذكاء والشجاعة، فما سينقصك وقتها سوى العنصر الثالث بأول جملة بالمقال أتذكر؟ الفعل.

(8)
قد تعتقد أن الانتحار خيار يخصك وحدك، وأنها حياتك وحدك فلك الحق في كل ما تصنع. لو كان هناك شخص مقرب إليك لأخبرك بكل إيمان أن هذا ليس من حقك، ولكن حسنا لا أستطيع معارضتك في ذاك، لكنك أنت أيضاً لن تستطيع معارضتي في أن حيوات البشر متداخلة إلى حد كبير، كأنها أحجار هرم كبير أو صغير على حسب عدد علاقاتك ومعارفك. قد نأخذ حجراً ونستخدمه في أي شيء آخر، لكن مع إزالته حتى وإن كان لا يحمل أحجاراً أخرى، فالهرم لن يعود كما هو أبداً بل لن يعود هرماً من الأساس.

لو رحلت روحك ستسرق تلك الأجزاء المتعلقة بها من أرواح القريبين منك، وكل على قدر حبه لك، فإن كان أحدهم يحبك بصدق بالغ قد تأخذ روحه كلها ولا أعني ذلك كمجاز ولا بشكل حرفي لكنه سيبقى يتنفس بغير روح، يعني أنك ستكافئ الشخص الأكثر حباً لك، الأكثر تعلقاً بك، الأكثر إيماناً بجمال روحك واستحقاقها للحياة في هذا العالم بأن تسرق روحه، تدمر حياته تماماً، وتتركه يتخبط من بعدك كالأعمى الذي فقد عصاه وسمعه.

(9)

الحياة متعة وألم، فلو كنت من سيئي الحظ الذين لا يعرفون المتعة إلا نادراً (وهم كُثُر)، فقد تجد في إيمانك عزاء إن كنت مؤمناً، وإما أن تخلق المتعة أنت قد ما استطعت، متى استطعت

"أنا وحدي تماماً، وحيد وحدة العالم" قد تقول ذلك، وألا أحد سيفتقدك، وأنك لا شيء، وأن حتى أهلك يتمنون موتك، وقد تكون صادقاً بالفعل، بل من الوارد جداً أو أكثر من الوارد حتى ألا تكون مهتماً بالعالم كله، وقد لا أستطيع إقناعك بعكس ذلك ما دمت لا تحاول أن تمنح نفسك بعضاً من قدرها الطبيعي، لكن أتعلم أن الرجل الذي حاول منذ أيام الانتحار من فوق جسر بلندن، أتعلم أن (العابرين الغرباء) منهم من احتضنه ومنهم من عبرت يديه السياج الفاصل بينهم وبين الرجل وأمسكه من قدميه، حتى أنهم ربطوه بالحبال هؤلاء (العابرين الغرباء) الذين لا ينتظرون منه شيئاً، ولا يعلمون عنه شيئاً؟ أنت فقط وقفت بالمكان الخاطئ وسط الأشخاص الخاطئين.

(10)
ليست الأسباب كلها، ليست الحالات كلها، وليس كل ما يقال عن الانتحار ولا يمكنه حتى أن يكون، لذا وللعلم: كل ما سبق ليس نقاشاً وإنما مجرد لفت انتباه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.