شعار قسم مدونات

لعنة التذوق

blogs - رجل يمشي في سكة حديد
مساكين هم أولئك الذين يحملون حواس تذوق استثنائية.. الذين يدركون التفاصيل الصغيرة.. ويلتفتون إلى كل خفي وعابر.. ويحبون أشياء لا يحبها سواهم! أولئك الذين يحملون أرواحا ثلاثية الأبعاد.. لها بعد آخر موغل في العمق.. شديد الانحدار.. لا يتمكن المحيطون بهم من سبر أغواره.. فتبقى دائما بينهم وبين أحبائهم فجوة لا سبيل لعبورها.. وتبقى دوما في أعماقهم مناطق غير مأهولة بالاحتواء.. ومساحات لم يستوعبها أحد بما يكفي.. لذا تبقى لديهم دوما مشاعر الغربة.. وإن وجدوا الصداقة والحب والعمل والزواج.. فهناك رغم كل شيء.. بضعة من روحهم لم يبتلعها العابرون بعد!
مساكين هم أولئك أصحاب التذوق المتفرد للأشياء.. أولئك الذين تتندرون عليهم وتمنحونهم صفة العمق.. والانشغال بالغرائب.. من يملؤهم شغف بالمعاني والقيمة والحقائق.. المهووسون بالكتب والموسيقي والألوان.. الذين يبحثون في الحبيب عن حوار شهي أكثر من بحثهم عن سرير حار!

أولئك الذين يحملون عوالمهم الخاصة.. متنوعة شاسعة المساحات.. ودواخل شديدة الوعورة.. يحملون نفوسا ممتلئة بالدهاليز والممرات السرية.. والشروخ! قد يبدو لكم أحدهم شهيا.. جذابا.. معديا بالعمق..
لكنك لا تدري أن لتلك الذائقة المتفردة فيه لعنتها!

فمن يتذوق الأشياء بتفرد.. ويمتص نخاع الجمال الغرائبي المستور في الحياة.. كذلك أيضا تصبح مستقبلاته الداخلية أكثر حساسية للخيبة والوجيعة والألم والاغتراب! وهنا تأتي المنطقة الفاصلة والاختبار الأهم في حياة هؤلاء الاستثنائيين! فبعد بعض الوقت في عوالمهم.. يصبحون غير لائقين بما يكفي لمحاكاة القطيع.. وكأنهم لا يليقون بالعالم ولا يليق بهم العالم.. تبدأ تلك الفجوة بينهم وبين الكون تتسع!

هو ذلك النوع الذي صار نفسه بحق.. وكان هو هو.. ولا أحد سواه.. لم يهادن ويتخلى عن روحه.. ولم ينهزم وينكسر أمام اجتياح الزيف حوله.. لم يصبه الاكتئاب الوجودي والشلل النفسي والتخبط.. وكذلك لم يدفن جماله وشغفه وتفرده ويرتدي وجها لا يليق به!

تبدو حياتهم كلون فاقع في ثوب الحياة.. ووجودهم كنغمة نشاز في سيمفونية المحيط العابث.. ولكن هذه الفجوة أحيانا لا تكتفي بأن تكون فجوة خارجية أو قطيعة معنوية بينهم وبين ما يرونه تزييفا وتشييئا وعبثا وسطحية.. إنما تصبح هذه الفجوة داخلية.. يتحول الشعور المحبب القديم بالاغتراب إلى شعور باللاجدوى.. (بالغثيان النفسي)! وكأن أحدهم يريد أن يتقيأ روحه!

لا شيء يبدو نافعا.. والصفقات الضمنية بينهم وبين العالم الذي يرفض تمردهم الوجودي تفشل جميعا.. أضف إلى ذلك أنهم يحملون ذاكرة استثنائية أيضا.. لها لعنتها الخاصة.. ذاكرة انتقائية لا تحتفظ بكل شيء.. ولكنها تحتفظ بتلك الأشياء ذات القيمة الجمالية.. والقيمة الوجعية! ذاكرة درامية مفعمة بالانفعالات.. محتشدة بالحروب التي لا تهدأ.. تتمرد عليهم ذاكرتهم بالحنين حينا.. وبالجلد الذاتي تجاه مواقف قديمة لم يسعفهم فيها السلوك الصائب.. تتحد ذاكراتهم مع المحيط الذي يرفضهم.. يتحالفان على أن يزيدا شعور الغربة والخيبة والخسارة داخلهم! وتلك لعنة الذاكرة..

يقصيهم الكون إلى مناطق هامشية.. هم لا يعتزلون ولا ينعزلون اجتماعيا.. فهم على العكس.. كائنات اجتماعية تهوى التواصل الإنساني العميق.. ولكن تصبح هذه الإزاحة جوانية.. يعزلون مناطقهم الحميمة وراء أسوار حماية من تمدد العبث الكوني المحيط.. وكأنهم يحافظون علي جمال أرواحهم.. وكذا يحافظون على عطب نفوسهم وشروخها والتهاباتها من اقتحامات العبث والزيف حولهم! وتلك هي المرحلة الثانية من أزمتهم!

وهنا فقط يفترقون أنواعا:

النوع الأول منهم من يصيبه (اكتئاب وجودي) مقعد.. وشلل نفسي صارخ.. فيتخبط بفعل مشاعر الاغتراب والخيبة فيه.. ويري تلك الحقيقة بكونه لا يليق بالمحيط.. نوعا من القصور.. فيملؤه الإحباط..
وربما التعثر في العمل أو الدراسة.. هو مكتئب.. ولكنه ليس مكتئبا بالمعنى الإكلينيكي للاكتئاب.. إنما هو اكتئاب وجودي داخلي .. أساسه الإحباط والشعور باللاجدوي.. ربما يتحول هذا الاكتئاب المتفرد أيضا كعادتهم إلى تمرد ديني.. أو تشكك في وجود القيمة المطلقة ممثلة في الله والأخلاق.. وتبدأ هنا أحيانا منعطفات التشكيك والإلحاد كردة فعل وجودية تجاه هذه العثرة وأزمة الهوية المتفاقمة التي لا تحل! هو ينهزم وإن بدا يتشنج ويقاوم!

والنوع الثاني منهم (التلاهي الوجودي) يتلاهي عن نفسه.. يحاول نسيان تفرده.. يقفز طوعا في المحيط حوله.. ينشئ لنفسه قناعا اجتماعيا ملائما.. يعدله كل حين ويضيف عليه رتوشا وتغييرات حتى يصير متلائما متكيفا بما يكفي لينخرط وسط الجموع.. يواري تفرداته واستثنائيته وبصمة روحه.. يدفنها.. ويسعى لإخراسها.. ويتلاهى أكثر.. ربما ينسي نفسه.. أو يتناساها.. ربما تلهيه الدنيا وساقيتها وطاحونتها الاجتماعية عن أن يتذكر نفسه وشغفه.. وربما يحوز كل شيء.. ولكن يبقي لديه شعور دفين بالخواء.. بالفراغ.. بأن شيئا ما ينقص الصورة.. رغم ازدحامها.. ويبقى هذا الشعور بالنقص وإن لم يكن مقعدا ولا يصيبه بالعجز أو الشلل النفسي كأصحاب النوع الأول.. يبقي منغصا لحياتهم من زاوية ما.. 

هؤلاء يتقنون صناعة الهدنة مع الكون.. أو بمعنى أدق.. يتنازلون! يدفعون جزية أرواحهم.. ويمنحون المجتمع معاهدة انهزام.. فيبدون منتصرين ناجحين موفقين.. ويبقى شيء ينقصهم.. لا تظهر وجيعته إلا في اختلاءاتهم بأنفسهم.. أي أنه يستسلم وإن بدا ينتصر وينجح! هؤلاء يحملون القلق الوجودي.. شعور دفين غير مبرر بأن شيئا ما ليس على ما يرام.. ويحتاج مزيد تعديل! شيئا ما غير واضح.. يرهق قلوبهم بالقلق ومخافة الوحدة.. وخوف من فقدان المحيط حولهم.. الذي اجتهدوا في التلاهي به عن مواجهة أنفسهم! يتشبثون به أكثر.. ويستبدلون بالغربة القديمة عن العالم.. غربة جديدة عن أنفسهم!

نختصر القول بأن النوع الثالث استطاع ربما بنفسه أو بفعل المساعدة النفسية العلاجية.. أن يحصل على الحل الوجودي لأزمة الهوية فيه والذي يتلخص في قاعدة وحيدة.. ليست السعادة والسلام النفسي إلا أن تحقق كل إمكاناتك المعطلة.

ونوع ثالث هو الأكثر سوية بينهم.. وعليه يرتكز علاجنا للنوعين الأولين.. هو ذلك النوع الذي صار نفسه بحق.. وكان هو هو.. ولا أحد سواه.. لم يهادن ويتخلى عن روحه.. ولم ينهزم وينكسر أمام اجتياح الزيف حوله.. لم يصبه الاكتئاب الوجودي والشلل النفسي والتخبط.. وكذلك لم يدفن جماله وشغفه وتفرده ويرتدي وجها لا يليق به! إنما استطاع أن يفهم نفسه بما يكفي.. ويحصل علي وعيا متفردا كذلك بروحه وتفرداتها.. ويستكشف من نفسه المناطق المظلمة..

يحصل على علاقة ملائمة لبصمة روحه وشروخها.. فلا تزداد بالعلاقة غربته..  بل تصبح العلاقة شرنقته الحامية من توغلات المحيط.. تخلي عن الانفعالية.. ولبس ثوب الحكمة ومنح العقل مقاعد التحكم فيه.. واستطاع أن يحصل على معادلته الوجودية الخاصة.. معادلته الخاصة في الدين.. والعلاقات.. والعمل.. والأسرة.. والشغف! معادلته الموافقة لتفرده.. والملائمة لاستثنائيته.. (قل كل يعمل على شاكلته). طريقته هو لا سواه.. ومذهبه الحياتي النابع من كينونته لا مستوردا من غيره..

لن أخوض كالعادة كثيرا في برنامج العلاج الوجودي فهي تستغرق كتبا ومجلدات.. ولكننا نختصر القول بأن النوع الثالث استطاع ربما بنفسه أو بفعل المساعدة النفسية العلاجية.. أن يحصل على الحل الوجودي لأزمة الهوية فيه والذي يتلخص في قاعدة وحيدة.. ليست السعادة والسلام النفسي إلا أن تحقق كل إمكاناتك المعطلة.. وتوظف كل قدراتك المهدرة.. وتحصل على معادلتك الخاصة.. كن أنت أنت.. ولا تشبه أحدا سواك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.