شعار قسم مدونات

علمتني الغربة

blogs - مسافرة

يوما ما كنت في بلدي بين أهلي وأحبائي ، أعيش أيامي كالجميع، أجد الكل بجانبي في مرضي، أحزاني وأفراحي ، إلى أن عشت تجربة قسمت حياتي لما قبلها وما بعدها. تغيير البلد، "الغربة" كما يسميها البعض أو "الحرية" عند الآخرين، في بداية الغربة تحس نفسك كالدودة المحبوسة في الشرنقة، تتعذب وتعاني لتخرج فراشة جميلة.

تجربة السفر وتغيير البلد تجربة رائعة رغم قساوتها ورغم صعوبة الابتعاد تعلمك أشياء كثيرة لم تكوني لتتعلميها لو بقيت في بلدك أهمها تعرفك العميق على نفسك. تكون في بلدك بين كل أحبابك، ربما يعرفك الكثيرون أينما حللت ويراقبون أفعالك وتصرفاتك، أما في الغربة فأنت مجرد رقم بين الأرقام.

أقف كثيرا في محطات المترو أراقب المارة، تلك أم تحاول نزول الدرج بصعوبة مع عربة رضيعها، ذلك الشاب يدندن مع ما يستمع إليه، تلك لا ترفع وجهها عن كتابها، وفي ذلك الطرف مجموعة من الشباب يتحدثون تارة ويصمتون، أناس من مختلف الأشكال والجنسيات، الكل في قوقعته، الكل مشغول بمشاكله ويجري مع نمط الحياة المتسارع أو كما نقول بالعامية كل يغني على مواله. الكل يجري من هنا لهناك بلا توقف بدون أن يلتفت لمن بجانبه.

في الغربة تفرحين بنجاحاتك وإنجازاتك فقد تعبت عليها كثيرا وقلما وجدت المعين. تتعلمين المحبة والتعاون والتكافل وتتقاسمين كل شيء مع من حولك لتصنعي عالمك الجديد.

في بلدك في فرحك وحزنك تجدين الكثير من الناس بجوارك، بينما هنا تكون محظوظا لو ظفرت  بأصدقاء يعدون على أصابع اليد الواحدة، لكن العلاقات هنا تصبح أقوى، لا يغدو زوجك مجرد زوج وإنما شريك حقيقي ورفيق لحياتك وصديق يدعمك، حتى ابنتك ذات السبعة أعوام تصبح من أعز صديقاتك تقاسمينها همومك، تستشيرينها فتكبر في عينيك، أصدقاءك القليلون يصبحون كعائلتك.

في الغربة تسقطين وتضعفين كثيرا ولكنك في كل مرة تضطرين أن تنهضي بشكل أقوى فهناك أسرة تعتمد عليك، أعمالك ودراستك وحدك مسؤولة عنها. في الغربة تضطرين أن تغيري شخصيتك، أن تصبحي أقوى، وأن تحاربي حتى في أوقات انهيارك فما عدت تلك الفتاة المدللة التي تسارع عائلتها لدعمها والتخفيف عنها ومساعدتها.

في الغربة وحدك تكتبين تاريخك. في الغربة تحاولين أن تبدين بشكل أفضل، يتوجب عليك أن تبقي صامدة واقفة بشموخ وأن تنجحين دائما، فما عدت تمثلين نفسك، صحيح أنك قد أحسست نفسك غريبة ولكنك تقتنعين لاحقا أنك حتى وإن أصبحت مجرد رقم فأنت لا تمثلين نفسك ولا شخصك ولكنك شئت أم أبيت تمثلين دينك، فأينما حللت الكل ينظر لقطعة القماش التي تحملينها على رأسك قبل أن ينظر إليك فتضطرين أن تقفي وتثابري وتنجحي رغم كل الصعوبات لتخرجي من شرنقتك وتتعلمي الحياة.

في الغربة رغم انشغالاتك ومسؤولياتك الكثيرة تستمعين لنفسك كثيرا وتتعرفين عليها من جديد، تصالحينها وتصالحي كل من حولك وتصبحين طبيب نفسك تحبينها وتُحبين من حولك، تبتسمين للجميع رغم حزنك، وتسعين لإدخال الفرح على نفسك ومن حولك.

في الغربة تفرحين بنجاحاتك وإنجازاتك فقد تعبت عليها كثيرا وقلما وجدت المعين. تتعلمين المحبة والتعاون والتكافل وتتقاسمين كل شيء مع من حولك لتصنعي عالمك الجديد، ومحيطك الذي اخترته أنت وتعبت في المحافظة عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.