شعار قسم مدونات

رمضان في دولة أم هاشم الشقيقة

blogs رمضان

يعلم جيدا مواطنو تلك الدولة سبب تسميتها بهذا الاسم كما أنهم يدركون جيدا مدى قدسيتها ورفعة مكانتها لذلك فهم يفضلون نعتها بـ "الدولة"، حتى إن كثيرا ممن يهجرونها ليعيشوا في أماكن أخرى أرقى وأجمل لا يلبثون إلا ويعودون إليها سريعا كي يتسكعوا في شوارعها المزدحمة ويأكلوا في مطاعمها المتواضعة ويجلسوا لساعات على مقاهيها الشعبية، وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامة عريضة تنم عن سعادة لا يفهمون سببها، ولئن سألت أحدهم ذات مرة "من أين الرجل؟"، سيجيبك مفتخرا بعد لحظة صمت تلمع فيها عينيه "من السيدة زينب".
 

اختلف المؤرخون كثيرا في قضية المكان الذي تشرف باحتواء جثمان "السيدة / زينب بنت علي بن أبي طالب" – رضي الله عنها وعن أبيها – عقيلة بني هاشم وابنة الزهراء ريحانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن أهل المنطقة المحيطة بالمسجد الذي يحمل اسمها لم يختلفوا أبدا على حبها وحب آل البيت جميعا وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك أغلب مناطق وسط القاهرة التي يتشابه أهلها إلى حد كبير في الطباع والسلوكيات خاصة في شهر رمضان المبارك.
 

لا أعلم حيا من أحياء القاهرة القديمة قد خلا من تلك العادة الطيبة، وهي أن يقوم بعض الشباب بتجميع وجبات ساخنة من بيوت القادرين لتكون طعام إفطار شهي للفقراء من أهل نفس الحي، فيجلس الرجل وهو يدرك أن الطعام الذي يضعه في أفواه أبنائه قد شاركه فيه غيره.

حكى لي مرة أحد المدرسين بالمركز الثقافي البريطاني في القاهرة وهو أيرلندي الجنسية، أنه يعشق القاهرة التي يقيم فيها منذ ثلاث سنوات ومن شدة إعجابه بها قد اشترك مع زملائه في عمل فيلم وثائقي عنها، كان أكثر ما يعجب الرجل في تلك المدينة الكبيرة أنه يستطيع أن يتجول فيها منتصف الليل دون الشعور بالقلق وهذا ما يفتقده في بلده، فلا أعلم أحدا قد نجا من فتنة القاهرة وسحر أحيائها القديمة التي لا يعرف أهلها للنوم طعما خاصة في الشهر الكريم. 

فليل شوارعها في رمضان كنهارها وربما أكثر صخبا حين يأتي الناس من أصقاع شتى قبيل منتصف الليل ليتناولوا طعام السحور في مطاعمها التي لا تهدأ، بعد أن يصطحبوا أطفالهم إلى جوار مسجد "السيدة زينب" كي يبتاعوا لهم فوانيس رمضان التي وإن كانت تتوفر في أماكن ومحلات أخرى، لكن المظاهر الاحتفالية الكرنفالية التي تكسو هذا المكان في تلك الليالي يندر أن تراها في أماكن أخرى من الكون.
 

فإذا أردت أن ترى الشارع خاليا فعليك أن تتناول طعام إفطارك في شرفة المنزل تراقب الوضع هنالك، تلك الدقائق المعدودة التالية لآذان المغرب هي التي سترى فيها الشارع هادئا تماما تستطيع أن تسمع فيه بوضوح أصوات اصطدام الملاعق بالأطباق على الموائد المنتشرة داخل البيوت وخارجها، الحركة الوحيدة التي ستلحظها حينها هي لهفة شباب يحملون أكياسا ضخمة تحوي علبا بيضاء يبحثون يمنة ويسرة عن شخص قد انقطع به السبيل إلى منزله، أو عسكري مرور لم يصله طعام إفطاره بعد، أو عائل أسرة دفعه إلى الطرقات قرص الجوع بطون عياله.
 

كالفرسان المتبارون في مضمار السباق، يجوب هؤلاء الشباب بوجباتهم الساخنة شوارع وحواري "أم هاشم" بحثا عن المحتاجين الذين ينتظرون طعامهم كأفراخ صغيرة جائعة ترنو إلى لحظة قدوم أمهم بالطعام، فما إن يصلوا إلى بيت امرأة عجوز كانوا قد اعتادوا أن يمدونها بطعام الإفطار لأكثر من نصف الشهر الفضيل حتى تخرج إليهم فتاة في العشرينيات من عمرها، وقد كتمت بصعوبة في عينيها دموع مرارة الفقر والعوز تخبرهم ألا يأتوا مرة أخرى إلى هذا البيت بطعام أو بشراب، فيسألها أحد الشباب مستغربا طلبها هذا فتجيبه ببساطة "هذا الطعام للصائمين فقط، ونحن مسيحيون"!.
 

لا أعلم حيا من أحياء القاهرة القديمة قد خلا من تلك العادة الطيبة، وهي أن يقوم بعض الشباب بتجميع وجبات ساخنة من بيوت القادرين لتكون طعام إفطار شهي للفقراء من أهل نفس الحي، فيجلس الرجل وهو يدرك أن الطعام الذي يضعه في أفواه أبنائه قد شاركه فيه غيره بمكان غير بعيد عنه، فتمتد الخيرات خارج حدود المنازل ويتقابل الناس في المساجد والأسواق ويلهو الأولاد في الشوارع والأزقة وهم لا يعلمون أن الدماء التي تجري في عروقهم قد أنتجها نفس الغذاء الذي صنعته أم أو زوجة أو أخت أحدهم.
 

دور الأنبياء والقادة والزعماء على مر التاريخ هو الكشف عن النفائس المطمروة تحت تلال الركام الذي يغطي أخلاق شعوبهم الحقيقية، فتكون هي الأساس الذي تبنى عليه الحضارات وتعلو فوقه الأمجاد.

حتى تلك الفتاة المسيحية التي منعها كبرياؤها من قبول الطعام أول مرة، فإنها قد عادت وقبلته في اليوم التالي تحت إلحاح الشاب الذي أقسم لها أنه سأل صانعة الطعام إن كان هذا كفارة صيام لا يأكله إلا صائم أم أنه صدقة تجوز لأي محتاج، فأخبرته المرأة أنه بالفعل كفارة صيام لكنها ستزيد وجبة أخرى كصدقة تطعم بها جائعا محتاجا بغض النظر عن دينه.
 

للأسف ربما يكون هذا الواقع قد اختلف تلك الأيام نظرا لأن أغلب الشباب القائمين على مثل تلك الأعمال هم من أبناء التيار الإسلامي ومحبيهم، وهم الآن ما بين مطارد أو معتقل أو تحت الثرى، وربما يظن البعض أن تلك المشاعر الطيبة والأخلاق الحسنة والعادات النبيلة قد اندثرت وانتهت إلى غير رجعة بسبب الجراح الغائرة التي أحدثتها السياسة في نفوس البشر.
 

لكن هذا يخالف ما أقره علماء الاجتماع أمثال جوستاف لوبون في كتابه "سيكلوجية الجماهير" حين قال أن عقائد وآراء شعب ما تتشكل من طبقتين متمايزتين تماما، طبقة "العقائد الإيمانية الكبرى" والتي تدوم قرونا عديدة وترتكز عليها حضارة بأكملها، وطبقة "الآراء العابرة والمتغيرة" التي تنتج غالبا عن مفاهيم عامة يشهد ظهورها وموتها كل عصر، كالموضة وبعض أشكال الفنون التي لا تلبث إلا وتندثر سريعا بالرغم من سرعة انتشارها في الجماهير، أما العقائد الراسخة والأخلاقيات الأساسية فلقد شببها (لوبون) بالصخور الراسية تتحرك فوقها الرمال أو كبحيرة عميقة ماؤها ثابت بالرغم من حركة الأمواج الصغيرة على سطحها.
 

وخير من هذا الكلام وأصدق هو كلام رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- "مثل أُمَّتِي مثل الْمَطَرِ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ "رواه الترمذي. فدور الأنبياء والقادة والزعماء على مر التاريخ هو الكشف عن النفائس المطمروة تحت تلال الركام الذي يغطي أخلاق شعوبهم الحقيقية، فتكون هي الأساس الذي تبنى عليه الحضارات وتعلو فوقه الأمجاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.