شعار قسم مدونات

الاستشارات على "آسك".. كارثةٌ بلا رادع

blogs موقع Ask
هذا موضوع أجّلتُ الحديثَ فيه طويلا، لكنّ إلحاحَه الشديد فرضَ نفسَه أخيرا، إذ يبدو أنّ المشكلات النفسيّة والاجتماعيّة في سياقِنا العربيّ في تصاعدٍ مطّرِد، وأنّ من يعانون منها في تزايدٍ مستمرّ، وأنّ من يخوضونَ فيها بغير معرفة أو خبرة أو ضمير في تزايدٍ مستمرّ كذلك. ولأنّ انعدام المعرفة والخبرة والضّمير في معالجة هذه القضايا لا يتوقّف أذاه عندَ عدم إفادة السّائل بل يتعدّاه إلى زيادةِ ضررِه وربّما تشكيل خطرٍ عليه، فالتنبيه والتّحذير أمرٌ شديدُ الوجوب.

تطبيق "آسك" تحديدا بيئةُ خصبة لهذه الاستشارات التي يرقى بعضُها إلى درجة الكارثيّة، ولرواجِ هذا التطبيق كوسطٍ للاستشارات النفسيّة والاجتماعيّة أسبابٌ تحتاجُ كتابةً مستقلّة، هي بذاتِها مشكلاتٌ عميقة تستدعي معالجة وتوقّفا مطوّلا. سأحاول التعرّض لبعض المشكلات العميقة التي ينطوي عليها استخدام هذا التطبيق/الموقع لغاية الاستشارات النّفسيّة والاجتماعيّة. وعليّ أن أشير إلى أنّني سأوجّهُ الحديثَ أساسا إلى من يستخدمون هذا الموقع لإرسال الاستشارات، لأنّهم هم من يمكنُ أن يوقفَ هذه الظّاهرة أو يحدّ منها، أمّا من يستخدمونه لإجابة الاستشارات فأشكّ جدّا في قابليّتِهم للارتداع.

كثيرٌ من النّاس ما يزالون يغترّون بالمتديّن واللحية، ويعتبرونَ التديّن والالتزام بأحكام الدّينَ علامة على استقامة الضّمير- وهذا هو الأصل لكنّه ليسَ الواقعَ بالضرورة- ودليلاً على الخبرة في شؤون الحياة المختلفة، وهذا ليس الأصل ويجبُ ألا يكونَ هو الافتراضَ المبدئيّ..

المسؤول لا يعرفك:
هذه المعلومة البدهيّة تُنسى في غمرة المعاناة والتخبّطِ بحثا عن أيّ أمل. المسؤول لا يعرفُ عنكَ شيئا. لا يعرف عمرَك ولا جنسك ولا وضعكَ الاجتماعيّ ولا الأسريّ ولا عملك ولا شيئا عن طفولتك ولا والدَيك وإخوتك، ولا عمّن ربّاك ولا تحصيلك الدراسيّ وتخصّصك، ولا بلدك أو ما إذا كنتَ ساكنَ مدينة أو ريف. هو لا يعرفُ من هذه المعلومات إلا ما تُعطيه، ولن تعطيَه غالبا إلا قليلا جدّا منها، بل قد ما يكون ما تعطيه إيّاه وما تحجبُه عنه انتقائيّا بوعيٍ منك أو بلا وعي -سأتحدّث أكثرَ عن هذا لاحقاً- وهو فوقَ ذلك لم ير وجهكَ ولم يسمعك حين تتكلّم، وهو لا يعلمُ بالتّالي شيئا عن شخصيّتك وطباعك، ولا يعلم إن كنتَ قلقا مؤرَّقا من المشكلة أو تُبالغُ فيها. أنتَ بالنسبة له نكرة تامّة.

هل المرءُ بحاجة لذكر الأثر المترتّب على غيابِ هذه المعلومات الأساسيّة؟ هل يمكنُ لعاقل أن يجيبَ سؤالا من قبيل: "أنا تائه بخصوص خيارات الوظيفة" بالجواب نفسِه لشخص عمرُه عشرون عاما وشخصٍ عمره خمسونَ عاما؟ هل يمكنُ لعاقلٍ أن يجيبَ سؤالا عن فشلٍ متكرّر في العلاقات الاجتماعيّة دون أن يعرفَ شيئا عن طفولة السائل وعلاقتِه بوالديه وطباعِ شخصيّتِه؟

هناكَ من يأتي إلى العيادة النفسيّة يشتكي من قلق من امتحانات آخر السنة، ويتبيّنُ للطبيب النفسيّ أو المعالج أنّ مشكلتَه هي أنّ والدتَه توفّيت منذ ثلاثة أعوام وهما في فترةِ تجافٍ. كيف سيكتشف مستشارُ الآسك العبقريّ هذا؟
 

المسؤول مشغولٌ بجمهورِه، لا بك ولا بمشكلتك:
لأنّ المسؤول لا يعرفك، فهو ليس مشغولا بك ولا بمشكلتك. أنتَ لن تراجعَه كلّ أسبوع أو شهر لتتأكّد من نجاعة توصياتِه، ولن يراكَ تبكي أو تتألّم أو تضطربُ ساقاكَ من القلق ولن يسمع صوتكَ يتهدّج وأنت تتحدّث عن مرض زوجتك. لو غضبتَ من جوابِه أو تأذّيت أو تألّمت فهو لن يعلم، ولو أرسلتَ له تعقيبا غاضِبا فربّما يضيعُ في غمرة الأسئلة، وربّما يقرؤه ويهزّ كتفَيه مع ابتسامة من هذا اللحوح المسكين الذي لم يفهم عبقريّة الجواب الذي أُعجِبَ به المئات وشاركَه العشرات على صفحاتِهم. صحيح، هناك خيار الـ "Block" أيضا، وعالج مشكلتَك بنفسك.

لكنّ هذا المسؤول الذي لا يعرفك يعرفُ أنّ لديه آلافَ المتابعين، وجوابُه موجَّهٌ أولا وأساسا لهم لا لك. هو يتعاملُ مع سؤالك كفرصة لاستعراض مهاراتِه في الصياغات اللغويّة والإحالات المعرفيّة الفارغة أو حتّى في السّخرية. أهمّ ما يدور بذهنِه وهو يجيب ليس علاقتك المضطربة بزوجتك ولا حياتكَ التي تتدهور ولا إيمانك الذي يتفلّت، بل كيف سيتلقّى جمهورُه تلكَ الصياغة الرائعة للجواب، أو تلكَ المهارة في وضعك في الزّاوية بجوابٍ مُسكِت أو مفارقة متذاكية.

ربّما تتساءل، لماذا لا يكون قاصدا مساعدتي بالفعل؟ ولماذا لا تفترضُ حسنَ النيّة والرغبةَ الحقيقيّة في النفع؟ أجيبك: فضلا عن كلّ ما قلتُه وسأقوله لتبيين أنّ هذا الأسلوب في الاستشارة يضرّ ولا يفيد، وأنّه لو كان هناك حدّ أدنى من المعرفة والضّمير لما تصدّى أحدٌ لإجابة هذه الاستشارات بهذه الطريقة .. فضلا عن ذلك كلِّه، سأعطيك اختبارا بسيطا: هذا الشخصُ نفسُه الذي تُرسلُ له باستشارتك على آسك، أرسل له الاستشارة نفسَها برسالة خاصّة، أو احصل على رقم هاتفِه وكلّمه وأخبره بمشكلتك، وأخبرني بالنتيجة. أخبرني إن كان سيجيبك أصلا، وإن أجابك فأخبرني كم سيحتملُ من التفاصيل وإلى متى سيظلّ متابعا لتعقيباتك واستدراكاتك على ما يقدّمه من حلّ.

ربّما تقولُ إنّ الجوابَ العام على آسك يستحقّ الوقتَ من المسؤول لأنّ فيه فائدة عامّة. لكن، حين أرسلتَ استشارتَك، هل كنتَ تبحث عن خطبة في الحبّ؟ أو موعظة في برّ الوالدين؟ أو محاضرة في حقوق الزوجين؟ بالطبع لا. أنتَ لديك مشكلة خاصّة تريدُ حلّا لها، ولستَ طالبَ مدرسة يطلبُ مساعدة في كتابة نصّ لحصّة الإنشاء والتعبير.

حين أقرأ بعضَ الإجابات على موقع "آسك"، لا أتساءل عمّا إذا كان السائلُ يمتلك أي خبرةٍ علميّة في معالجة ما يتصدّى له، فهذا أمرٌ واضح الانعدام، بل أتساءل عمّا إذا كان كثيرٌ من هؤلاء قد خبروا البشر أو عاشروهم أو يعرفونَ الحدّ الأدنى عن النّفس البشريّة

ضياع المشكلة الخاصّة في القواعد والتعميمات:
المشكلة النفسية أو الاجتماعيّة خصوصيّة وفريدة بالضرورة، حتّى لو تشابهت وتكرّرت. ملايين البشر في هذه اللحظة يعانون من مشكلاتٍ في العلاقة الزوجيّة، لكن لا تشبُه أيُّ من هذه الحالات حالةً أخرى. هناك أنماطٌ تتكرّر، وهناك سماتٌ تتشابَه، لكنّ لكلّ علاقةٍ تفرّدَها الخاص، ولكلّ حالة مقاربتَها.
الجانبُ الشخصيّ في المشكلة من أهمّ سماتِها ومن أهمّ مرتكَزات علاجِها. مهما اختلفت أنواع العلاج النّفسيّ وتعدّدت، يظلّ التناغم والفهم المشترَك بين المستشير والمعالِج، أو ما يُسمّى Therapeutic Rapport من أهمّ أسباب النّجاح ومن أقوى العوامل التي تُظهرُ الدّراساتُ قدرتَها على التنبّؤ بنتيجة طيّبة في نهاية العلاج.

هذا الجانب مفقودٌ تماما في استشارات الـ"آسك". خذ مثالا متكرّرا: شخصٌ يرسلُ استشارةً مفادُها أنّه تعرّض لمصيبة -فقدان عزيز، اعتداء جنسيّ، خسارة ماليّة فادحة، سجن وتعذيب لدى أجهزة الطّغاة، وغيرها ..- وأنّه تبعا لذلك صار يشكّ في عدل الله أو حتّى وجوده، ويتساءل عن الحكمة من وجود الشّرّ والغاية من الحياة، وأنّ حياتَه في تدهورٍ مستمرّ.

حين تُرسلُ سؤالا من هذا النّوع لشخصٍ على آسك، خصوصا من أصحاب الجمهور من المتديّنين، فسينصبُّ همُّه على الدّفاع عن الله ووجوده وعدلِه أكثرَ من انشغالِه بمشكلتك. لماذا؟ لأنّ جمهورَه يتطلّعُ إلى ما سيقوله، وشخصٌ من هذا النّوع لا يمكن أن يجعلَ اعتراضا على وجود الله وعدله يمرّ دون توقّفٍ مطوَّل فهذه قاعدة عامّة بحاجة للتوكيد دائماً، وحتّى تعاطفُه مع مشكلتك سيصوغُه بحذرٍ شديدٍ بحيث لا يُفهَم منه أبدا تساهلُه مع ما قلت، بل قد يكون تعاطفا على طريقة التفهّم المترفِّع أو الأبويّ.

أنتَ لا تريد، ولن يساعدَك غالبا، درسٌ كلاميّ في أدلّة وجود الله ولا نقاشٌ فلسفيّ لمشكلة الشّرّ. ربّما يفيدُ هذا مع فئة ضئيلة جدّا إذا تمّ بهدوء وذكاء وبلا ضجيجٍ من المتابعين الغاضبين من التشكيك في عدل الله، وإذا كان جزءا من خطّة متكاملة لمعالجة الحالة. لا يعلمُ مستشارو الآسك أنّ النقاشَ العقليّ الفلسفيّ الكلاميّ البارد قد يكونَ أسوأ ما تقدّمه لشخصٍ في حالة اضطرابٍ وغليانٍ وقلقٍ واكتئاب.
قد يكونُ ما تحتاجُه هو الحديث عن ابنك الذي فقدتَه وعن أنّك تفتقدُ ابتسامتَه وصخَبَه، وقد يكون ما تحتاجُه هو محاورةَ السوداويّة التي صرتَ ترى بها الوجود وتحجبُ عنكَ كثيرا من خيرِه وجماله وتحرمُكَ من رؤية مكامن قوّتِك وصلابتك ومرونتك، وربّما تكون بحاجة إلى إصلاح علاقةٍ مهمّة في حياتك، وربّما تكونُ بحاجة إلى دواء. لن يعرفَ مستشارُ الآسك شيئا من هذا، وستضيع مشكلتُكَ في قواعدَ عامّة يعرفُها أكثرُ النّاس، وتعرفُها أنتَ كذلك غالبا.

معاناةُ الإنسان ومشكلاتُه، رغمَ ألمِها، ينبغي أن تكونَ أعزَّ عليه من أن تتقاذفَها اجتهاداتُ الجهولين والباحثين عن الإعجاب والخائضين بلا مسؤوليّة.

الجهلُ المريع بالنّفس الإنسانيّة:
حين أقرأ بعضَ الإجابات على موقع "آسك" بخصوص استشارات نفسيّة واجتماعيّة، لا أتساءل عمّا إذا كان السائلُ يمتلك أي خبرةٍ علميّة في معالجة ما يتصدّى له، فهذا أمرٌ واضح الانعدام، بل أتساءل عمّا إذا كان كثيرٌ من هؤلاء قد خبروا البشر أو عاشروهم أو يعرفونَ الحدّ الأدنى عن النّفس البشريّة.
مثلا، حين ترسلُ فتاة قائلة إنّ خطيبَها لمدة سنتَين قرّر أن يفسخَ الخطبة في اللحظات الأخيرة لأنّ أهلَه لا يحبّونَها، أو لأنّه أعادَ إحياء علاقة قديمة مع فتاة أخرى، ويبدأ المسؤول يكيلُ الشتائمَ والاتّهامات للشابّ ويتحسّر على زمنِ النخوة الضائعة والمروءة المهدورة .. أتساءل، هل لهذا الشّخص أدنى معرفة بالبشر؟

هل سمع هذا الشّخص عن الحيل الدفاعيّة النفسيّة؟ ألا يعرف شيئا عن أنّ البشر يعيدون رواية الأجزاء المزعجة من حياتِهم بحيث تبدو لهم أقلّ إيلاما أو أقلَّ تعذيبا للضمير؟ ألم يتعرّض هو نفسُه في حياتِه كلّها لمشكلة قام فيها الطرف الآخر بتشويه القصّة تماما؟ ألم يختلف اثنان من أصدقائه وسمعَ من أحدهِما فاتّخذّ موقفا، ثمّ سمع من الآخر فتغيّر موقفهُ تماما؟

ولنفترض إنّ هذه الفتاة ضحيّة بالفعل، وهذا احتمالٌ واردٌ جدّا، فما الفائدة التي جنتْها من شتم خطيبها والتحسّر على مروءة الرجال؟ هل سيشاهدُ الرجال هذا الجواب ويتأثّرون ويقرّرون استعادةَ مروءتِهم؟ ماذا لو كانت هذه الفتاة ضحيّة متكرّرة؟ ألا تحتاجُ إلى من يرشدُها إلى اكتشاف ذلك ومعالجتِه وكسر نمطٍ معيّن في علاقاتِها يجعلُها تقعُ ضحيّة في كلّ مرّة؟

أحيانا يُشبهُ الأمر تلك الظاهرة المتكرّرة على وسائل التواصل، حيث يكتبُ شابٌّ مثلا: "النساء بلا وفاء" أو "خيانتك لن تكسرَني" فيتسابق أصدقاؤه ومتابعوه على طريقة "الفزعة" إلى تأييدِ كلامِه والثناء عليه، دونَ أن يعلموا أنّه قد يكون يتحدّثُ عن شيء لا يعرفونَ شيئا عنه، وأنّ تأييدَهم العامّ لفكرتِه سيفهمُه هو تأييدا لموقفٍ محدّد اتّخذَه من شخصٍ ما، وهكذا يظلّ الضحايا ضحايا، ويظلّ المخطئون مخطئين، ويظلّ فاقدو البصيرة بأسباب مشكلاتِهم يتخبّطونَ في مشكلاتِهم وسطَ التصفيق والضّجيج. هكذا أصبحَ بعضُ من تعرّضوا لمشكلات نفسيّة واجتماعيّة مشاهيرَ يعتاشون معنويّا وحتّى مادّيا على مشكلاتِهم بدلا من حلّها.
 

لا يمتلك المعالجُ النفسيّ ولا استشاريّ العلاقات الزوجيّة ولا الطبيبُ النفسيّ ضمانات أكيدة لحلّ المشكلة النفسيّة أو الاجتماعيّة، لكنّهم يستندون إلى دراسات أُجريَت في هذه المجالات

الاغترارُ بالمتديّنين:
كاتبُ هذا المقال ولله الحمدُ والفضلُ شخصٌ يعتبرُ نفسَه متدينا ونشأ في أسرة متديّنة، ومع أنّ والدي ليس متخصّصا في الإرشاد النفسيّ أو ما شابَه، إلا أنّ كثيرين لجؤوا إليه لما يعرفونَه عنه من تديّن ورويّة مستشيرين بخصوص مشكلات نفسيّة واجتماعيّة، وكان يوصيهم بما يرجحُ عندَه، ويوصي بعضَهم بمراجعة طبيب نفسيّ، وأعلم غيرَه كثيرا من المتديّنين والوجهاء والحكماء الذين قد يعالجون مشكلة اجتماعيّة أو يوصون بطريقة للتصرّف بخصوص حالة نفسيّة بكفاءة توازي أو تفوق كفاءة معالج نفسيّ متخصّص.

أقولُ هذا لأوضّح تماما أنّ ما سأقولُه هنا ليس مشكلةً مع المتدينين الذين أشرفُ بالانتساب لهم، ولا مع غير المتخصّصين الذين يمتلكون الحكمة والرويّة ورجاحة العقل، والمستعدّين -وهذا مربطُ الفرس هنا- للجلوس مع المستشير وسماع شكواه وتفهّم ظرفِه الخاصّ وتحمّل مسؤولية ما يُشيرونَ به عليه. كثيرٌ من النّاس ما يزالون يغترّون بالمتديّن واللحية، ويعتبرونَ التديّن والالتزام بأحكام الدّينَ علامة على استقامة الضّمير- وهذا هو الأصل لكنّه ليسَ الواقعَ بالضرورة- ودليلاً على الخبرة في شؤون الحياة المختلفة، وهذا ليس الأصل ويجبُ ألا يكونَ هو الافتراضَ المبدئيّ.

بخصوص استقامة الضمير، فمن أعزّ المُنى أن تكونَ دائما مصاحبةً للتديّن، لكنّ هذا ليس هو واقعَ الحال دائما، ويكفي ما علّمنا إيّاه الربيع العربيّ من أنّ كثيرا من المشايخ يمكن أن يهادنوا الاستبداد ويعاونوه، ويصرفوا الناس عن المطالبة بحقوقهم والثورة على ظُلّامِهم والغضب من آكلي أرزاقِهم. أما بخصوص القضايا الاجتماعيّة، فليست لدينا للأسف إحصائيّات يمكنُ الاعتماد عليها بخصوص مشكلات الزواج وإساءة المعاملة ومدى اختلاف هذا الوسط عن غيره في تسبيب ومعالجة الاضطرابات النفسيّة، لكنّ من يتّصلُ بهذا الوسط يجعلُه يعلم ما يكفي لعدمِ افتراضِ استقامة الضمير من دون مساءلة.

أما بخصوص افتراض الخبرة في مشكلات الحياة عموما لدى المتديّنين، فهذا مرضٌ عميق الجذور، وظاهرةٌ لافتة تستحقّ التوقّف. أظنّ أنّ هذه الظاهرة، في جانبٍ منها على الأقلّ، فرعٌ عن فهمٍ رومانسيّ ساذج ل"شموليّة الدّين"، وتحويرِها إلى "شموليّة الشّيخ". ما تزالُ حتّى اليوم تسمع من يتحدّثُ بفخر عن أنّ المسجد كان في الإسلام بيتا للعبادة ودارا للتشاور السياسيّ ومكانا لانعقاد حلقات التعليم وحتى ساحة للتدريب على القتال. نعم كانَ هذا شيئا جميلا قبل ألفيّة ونصف، أما اليوم فلا معنى للحنين إليه، ومن السّذاجة مجرّد التفكير في احتمال وجود شيخٍ شامل.

هناك علومٌ ومعارف ضخمة تتعاملُ مع الظواهر الاجتماعيّة والنفسيّة، وهناك علاجات مُجرّبة يتدرّبُ عليها المختصّون سنوات. هذه المعارف ليست كاملة، وفيها مجال رحبٌ للتطوير والإضافة، ولكونِها تُنتَج في الغرب فهي لا تراعي دائما السياق وكثيرا ما تفشلُ في مراعاة اختلاف الثقافات والتقاليد. لكنّ الحلّ هو تبيئتَها وتطويرَها ونقدَها، والتشجيع على التوجّه لدراستِها والإفادة من آراءِ المختصّين فيها، لا اللجوء لمتديّن لمجرّد أنّه متديّن، وافتراض أنّه مؤهَّلٌ للتعامل مع شخصٍ مكتئبٍ أو مكلوم أو صاحب مشكلة اجتماعيّة.

مستشار الآسك، ما وجه مسؤوليّتِه؟ ومن يحاسبُه على الارتجال والإشارة بغير علم ولا معرفة، بل والسّخرية من السّائل أحيانا؟ وكيف سيعرفُ نتائجَ توصياتِه إذا لم يكن قادرا على متابعة نتائجِها وتقييمِها والتعديل عليها؟

غياب المسؤوولية الأخلاقيّة والقانونيّة:
لا يمتلك المعالجُ النفسيّ ولا استشاريّ العلاقات الزوجيّة ولا الطبيبُ النفسيّ ضمانات أكيدة لحلّ المشكلة النفسيّة أو الاجتماعيّة، لكنّهم يستندون إلى دراسات أُجريَت في هذه المجالات، وإلى تدريبٍ منضبِطٍ تلقَّوه واختُبِروا فيه، وإلى تعامل شخصيّ ومباشر مع هذه المشكلات يزيدُ خبرتَهم بالممارسة. يُضافُ لذلك، أنّ هؤلاء مسؤولون أخلاقيّا، وقانونيّا أحيانا حسبَ البلد، عمّا يوصونَ به وعن كيفيّة تعاملِهم مع المشكلة. فضلا عن ذلك، فهناك مراجعةٌ مستمرّة وحديث متواصلٌ عن سير الأمور وتطوّر الحالة.

وكما قلتُ سابِقا، فحتّى شيخُ المسجد والعمّ الحكيم والصديق القريب يشعرون تجاهك بمسؤوليّة لأنّهم يعرفونك ويقدّرون ما قد يترتّبُ على نصيحة غير مسؤولة. أما مستشار الآسك، فما وجه مسؤوليّتِه؟ ومن يحاسبُه على الارتجال والإشارة بغير علم ولا معرفة، بل والسّخرية من السّائل أحيانا؟ وكيف سيعرفُ نتائجَ توصياتِه إذا لم يكن قادرا على متابعة نتائجِها وتقييمِها والتعديل عليها؟

أعلمُ جيّدا ما قد يقودُ إليه الاضطرابُ النفسيّ أو الوقوع في مشكلة عويصة من انسدادٍ للآفاق وبحثٍ عن أيّ بصيص أمل، لكنّ هذا ليس مبرّرا أبدا لأن يضعَ الإنسانَ معاناتَه وآلامَه ومصيرَه في يدي مستهتِر لا يُراعي محدوديةَ معرفتِه في السائل وموضوع السّؤال، ولا يطالُه أيُّ شكلٍ من المحاسَبة على ذلك. معاناةُ الإنسان ومشكلاتُه، رغمَ ألمِها، ينبغي أن تكونَ أعزَّ عليه من أن تتقاذفَها اجتهاداتُ الجهولين والباحثين عن الإعجاب والخائضين بلا مسؤوليّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.