شعار قسم مدونات

مشاعر الرقصة الأخيرة

مدونات - فتاة

بينما أستمع إلى أغنية مصطفى أمين، الرقصة الأخيرة، ثارت في نفسي شجون وتساؤلات، هل تتخيل كيف سترقص مع من تحب إذا علمت أن هذه آخر مرة تلتقيان فيها؟ هل تتخيل كيف تعانق إذا علمت أنه العناق الأخير؟ كيف تعانق من التف في كفنه قبل أن يوارى الثرى؟ كيف تكون قبلتك على جبينه البارد؟
 

كثيرنا فارقنا أحبة لنا إلا أن الفراق الأقسى هو الذي يأتي فجأة بلا انتظار وبلا وداع، ولكن الحمد لله هناك فراق يتيح لنا قبله القبل والعناق وأحيانا رقصة أخيرة. الحمد لله كان حظي من الرقصات الأخيرة وافرا إلا مع أحب من فارقت. والذي كان فراقه الأشد وجعا لأن عناقه كان الأكثر حرارة والذي لم يضاهيه عناق حتى الآن. كان جدي.
 

فارقنا جدي في صحة وعافية، وعمل ودأب، وحب ولعب. فارقنا وقد اكتمل عز عائلتنا فقد كان الجميع بخير وقتها، كانت حياتنا كالبدر ليلة التم. كنا في التاسع عشر من رمضان، في انتظار العيد والمعظم قد اشترى ملابسه الجديدة والخطط تامة للبدء في الاستعدادات النهائية، وخير ليالي العام تقترب وليلة القدر تتبدى، إلا أن قدر الله أتى على غير ما نتوقع فكان فراقا مفاجئا أثكلنا من بعده نور الحياة ودفئها، وأقعدني بألم ينخر جسمي ونوم يغلبني قرابة الأربعين يوما، كانت هذه مرتي الأولى التي أعرف فيها أن للموت ألما حقيقيا في الجسد واتفق معي في ذلك إخوتي وشهدنا به جميعا على أكثرنا لوعة وفقدا وأكثرنا صلابة وجلدا، جدتي. التي كانت آلام جسدها تفضح استجلادها علينا فيجمعنا حولها جثيا، متمنين لها العافية والسلامة.
 

أقتطع من الحزن ما يسد رمق احتياجي الإنساني للتعبير عن مشاعري وما يسرحه خارج حدود نفسي، وأنتهب من الفرح نهمة لا أشبع منه أبدا. أطالع أيامي بكل ما أوتيت من أمل ومن شغف. لا أدخر من جنوني لغدي لأن غد آت بجنونه.

كان هذا فراقا أبديا لا لقيا بعده إلا في مستقر رحمته بعد آجال نقضيها، أما الفراق الأصغر الذي سبق فراق جدي، فقد منحت قبله رقصة أخيرة، وأغنية أخيرة. كان فراق الرفاق في الجامعة، كان فراق البساطة وقدر كبير من الحماسة، كنا نعلم موعد الفراق، لذا استعددنا له بالكثير من الذكريات التي صنعناها سويا، فصوت غناء هذه لا يبرح أذني، وضحكة هذه لا تغادر عيناي، وعناق هذه وحكايات تلك. غنينا معا ولا نكاد ننسى أصواتنا جميعا سويا. ومضينا جميعا كل إلى وجهتها ولا تزال نشوة الرقصة الأخيرة في قلوبنا لا تبرح تذكي قلوبنا إذ نتذكرها.
 

أما أبي فقد منحت قبل فراقه رقصتين أخيرتين، فقد منحنا سويا فرصة حقيقية لنتعلم درسا عن قيمة الحياة إذ نجينا سويا من تحت زخات الرصاص والغاز المسيل للدموع، وقام يومها رحمه الله بالمسح على رأسي كما لم يفعل منذ سنين طويلة، لا أذكر متى كانت آخر مرة مسح فيها على رأسي قبل هذه إلا في الطفولة وأنا نائمة ربما قبل أن يمضي إلى أسفاره. إلا إنني لا زلت أذكر مسحته تلك بيده التي اخترقتها الرصاصة وهي تكابد النزيف.
 

والرقصة الأخيرة كانت السرطان، نعم، كما قرأتم. فلم نلبث أن نجونا من الرصاص حتى دخل أبي صراعه القصير مع السرطان الذي دق لنا كل أجراس الإنذار. وأعطانا كل الفرص للعفو والصفح والمصارحة والتغافر. وكان إعلان الطبيب عن استعصاء الحالة على العلاج بمثابة المقطع الأخير في الأغنية التي رقصنا عليها. لم يسمع أبي بيان الطبيب، ولكنه حتما شعر بإيقاع رقصتنا الأخيرة حوله. فكان لا يزال يوصينا ويعطينا الأمل حتى عاد إلى المنزل لتفيض روحه على سرير أمي وفي حجرها داعيا لها أن يجعل الله صبرها في ميزان حسناتها.
 

كانت هذه رقصاتي الأخيرة وفراقاتي التي كلما عدت إليها أدركت أنني لابد أن أعيش الحياة كما لو أنني أعيشها أبدا، كل رقصة كأنها الأخيرة، أقتطع من الحزن ما يسد رمق احتياجي الإنساني للتعبير عن مشاعري وما يسرحه خارج حدود نفسي، وأنتهب من الفرح نهمة لا أشبع منه أبدا. أطالع أيامي بكل ما أوتيت من أمل ومن شغف. لا أدخر من جنوني لغدي لأن غد آت بجنونه. أقتات على حبي لمن حولي وأعلن أشد الحروب ضراوة على الكره إذا تسلل إلى نفسي.
 

للرقصة الأخيرة إذا ما أتيحت مشاعر في النفس لا يتسع لها الصمت ولا الحروف. مشاعر تذكي قلبك وتسيل دمعك. مشاعر تجعل العناقات حرى والقبل تترى، إلا أنها بكل تأكيد مشاعر نفضلها على أن نمضي ونفترق دونها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.