شعار قسم مدونات

لماذا يفند القرآن عقائد الآخرين؟

blogs قرآن
بينما كان صديقي في طريق عودته من جامعة الأزهر بحي الحسين العريق إذ سمع الأذان، فسأل عن طريق المسجد، فدله أحد المارة على المسجد لكنه علّق بكلام نزل على مسامعه كالصاعقة؛ حيث قال الرجل: (اذهب للمسجد لتتعلم شوية إرهاب)!
ولا يخفى غرابة هذا التعليق ببلد الأزهر حين يقال لرجل يسأل عن طريق المسجد لا مخزن المفرقعات! وصلة هذه الواقعة بما نحن فيه أنها ذكرتني بسياق باتت فيه المفاهيم والممارسات (بل والنصوص) الإسلامية في قفص الاتهام على نحو غير مسبوق في كنانة الإسلام. ومن هذا القبيل أنه ثار كثير من اللغط منذ أيام حول حكم القرآن بكفر غير المسلمين، وتحول الأمر من قضية علمية الكلام فيها بالدليل، إلى معركة سياسية وإعلامية مفتعلة لإلهاء الناس عن أسباب الفشل الحقيقية.

لذا كتبت هذه السطور لمحاولة فهم الأبعاد العِلمية والمنطقية في قضية التكفير العِلمي (بمعنى: حكم الإسلام بكفر غير المسلم) ، وهي الأبعاد الغائبة (أو المغيَّبة) لتحويل القضية من قضية علْمية فقهية يدور الحديث فيها بمجال تبادل الآراء وتداول الأدلة .. إلى قضية صراعية (سياسية وإعلامية) تتم فيها التغطية على الأبعاد العلمية والمنطقية لصالح المآرب السياسية، فكانت النتيجة تحول قضية (التكفير العِلمي)، لملهاة وفزاعة: ملهاة لصرف الأبصار عن المشكلات الأكبر، وفزاعة للتخويف من العناصر التي تتميز بها الهوية الإسلامية.

سكوت الإسلام عن تفنيد عقائد الآخرين كان سيجعل المسلم فريسة للتساؤل عن السر في كونه معتنقا لهذا الدين دون سواه؟ فشاءت حكمة الله ألا يترك المقتنعَ بدينه فريسةً لسؤال وجودي يبقى في ذهن صاحبه بلا إجابة شافية.

وبهذا صار المسلم مسلوب الحق في الاعتقاد بكامل عقيدته، والحق في الحديث عما تتميز به هويته، والحق في إثارة التساؤل الوجودي عن: لماذا اختار أن يكون مسلما؟ ولماذا قرر ألا يعتنق عقيدة أخرى؟ كما سلب حق مجادلة الآخرين بالتي هي أحسن؛ انطلاقا من مبدأ: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108). وقد فضلنا أن نستهل الحديث بطرح التساؤل:

لماذا تعرض القرآن لتفنيد عقائد الآخرين؟
والجواب أن لكل دين عقيدة تتجلى فيها هويته، وتبين إجابات هذا الدين عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا ينفك الذهن الإنساني عن إثارتها ومناقشتها في رحلة البحث عن الحقيقة. وعادة ما يحرص كل دين على أن يُبرز ما تتميز به عقيدته عن غيرها؛ بحيث يقوم لدى أتباعه المسوغ المنطقي للتمسك بهذه العقيدة ونبذ ما عداها، وإلا صار أتباعه في الحيرة والتساؤل المستمر عن مبرر اعتناق هذه العقيده دون غيرها طالما أن هذه العقيدة لا يظهر ما يجعلها متميزة ومدعومة بالبراهين التي تثبت أنها الحق.

ماذا يعني سكوت الإسلام عن تفنيد العقائد الأخرى؟
يتبين لنا أن سكوت الإسلام عن تفنيد عقائد الآخرين كان سيجعل المسلم فريسة للتساؤل عن السر في كونه معتنقا لهذا الدين دون سواه؟ فشاءت حكمة الله ألا يترك المقتنعَ بدينه فريسةً لسؤال وجودي يبقى في ذهن صاحبه بلا إجابة شافية، ويظل معه فريسة للشكوك التي تنهش في جدارِ يَقينه، وتنال من رسوخ اعتقاده في سويداء الفؤاد.

ومن ناحية أخرى كان لا بد من تفنيد العقائد المخالفة؛ حتى تكتمل هدايةُ الإسلام بتنبيه معتنقيها على بطلانها؛ كي تقوم عليهم الحجة، ولا يقول قائل منهم يوم القيامة: إن الله كلفنا بالإسلام دون أن يتميز أمامنا الكفر من الإيمان!

ولهذا كان لا بد من تفنيد العقائد الأخرى، خاصة التي يمكن أن تلتبس بالإسلام: إما لنسبتها لبعض الأنبياء، وإما لوجود بعض التشابه مع بعض الأصول الإسلامية، بحيث يظن البعض أن هذا التقارب ينسحب على كل الأصول.

هذه المعركة ظاهرها الحرص على الوحدة الوطنية ومشاعر شركاء الوطن، وباطنها: تقليص عناصر الهوية الإسلامية التي تقاوِم حالة (القابلية للاستبداد والاستعمار).

ولهذا اعتنى الإسلام بتفنيد المقولات الكبرى في عقائد أهل الكتاب التي خالفت عقيدة الإسلام؛ بسبب ما دخل عليها من التحريف بعد وفاة موسى ورفع عيسي.

وفي هذا الإطار أيضًا جاء تفنيد القرآن الكريم للمقولات الكبرى في المسيحية؛ لتنزيه رسالة عيسى مما شابها من تحريف؛ بسبب ما أقحم عليها من الفلسفات الوثنية، وحرصًا منه على إنقاذ الطائفة الكبرى من أهل الكتاب من الهلاك المعنوي المترتب على انحرافهم عن عقيدة التوحيد الخالص الذي جاء به عيسى. فتعرض القرآن لاعتقاد النصارى في التثليث وألوهية المسيح وبنوته لله، وأثبت بالبراهين العقلية القاطعة استحالة إثبات الألوهية لغير الله.

وهو مذهب الموناركيين الذين كانوا ينادون بالقرن الثاني بأن المسيح إنسان كسائر الناس حلت عليه حكمة الله بصورة لم يعرفها أي نبي آخر، ولكنه ليس إلها. (الأنبا غريغوريوس، اللاهوت المقارن ص50). ومع هذا الاعتقاد (الموافق للحق) عدت الكنيسة مذهبهم هرطقة تخالف ما اتفقت عليه المجامع بعد ذلك من ألوهية المسيح. وكانت المحصلة النهائية لهذا التناول القرآني -للمقولات الخاطئة في اعتقاد النصارى- هي الحكم على صاحب هذا الاعتقاد بالكفر، شأنه -في هذا- شأن كل من اعتقد غير عقيدة الإسلام.

لكن حكم القرآن بالكفر على معتنق هذه العقائد لم يعجب الكثيرين، وبدل أن يسلكوا سبيل البحث العلمي -الذي يقوم على مقارعة الحجة بالحجة- راحوا يغالطون ويصوبون سهامهم لعلماء المسلمين متهمين إياهم بتكفير النصارى والتحريض عليهم، وإثارة قضية التكفير في ظرف غير مناسب، مع أن العلماء والدعاة عادة ما يسحبون إلى هذه المعارك بوسائل متعددة على رأسها الأسئلة الإعلامية التي يطلب فيها من العالم أو الداعية أن يتنازل ويعلن ما هو مخالف لعقيدته وإلا وقع تحت ضغط الاتهام بالإساءة للآخرين.

ومن أمثلة هذه الأسئلة: (هل غير المسلم يكون شهيدا، خاصة إن وقع ضحية عمل عدواني قام به شخص أو تنظيم منسوب للإسلام؟) وهنا يبادر العالم أو الداعية بالتأكيد على أن هذه الأعمال ينكرها الشرع وأن ضحيتها مظلوم مسلما كان أو غير مسلم، لكن لقب الشهادة من خصائص الإسلام. وحينئذ تثار قضية (تكفير الآخرين) ويتم تناولها بمنهج اتهامي، ويسحب العالم أو الداعية إلى معركة مفتعلة لم يكن هو من بدأها وأشعل فتيلها.

كان لا بد من تفنيد العقائد المخالفة؛ حتى تكتمل هدايةُ الإسلام بتنبيه معتنقيها على بطلانها؛ كي تقوم عليهم الحجة، ولا يقول قائل منهم يوم القيامة: إن الله كلفنا بالإسلام دون أن يتميز أمامنا الكفر من الإيمان!.

وهذه المعركة ظاهرها الحرص على الوحدة الوطنية ومشاعر شركاء الوطن، وباطنها: تقليص عناصر الهوية الإسلامية التي تقاوِم حالة (القابلية للاستبداد والاستعمار)، وإلهاء الناس في معارك مفتعلة تكون الفزاعة فيها هي التخويف من الدين (المقاوِم) والعلماء (العامِلين) والتدين (الفاعِل) والمتدينين المستمسكين بالدين الكامل، بدل أن يكون التخويف من الظلم، والفساد، والاستبداد، والتهميش، وتأجيج الصراع الطبقي المصاحب لغياب العدالة الاجتماعية، باعتبارها الأسباب الكبرى للفشل، والأخطار العظمى التي تهدم الأوطان، وتصنع التطرف والمتطرفين، وتخلق البيئة الحاضنة لأفكار التفجير!

وعلى إثر هذه المعركة (الإلهائية) المفتعلة، يتم تفريغ المفاهيم من مضمونها، وملؤها بمضامين أخرى، فالحكم العلمي بكفر غير المسلم يصير تحريضا وتفجيرا، والتمسك بالعقيدة يصير تشددا، والحفاظ على الهوية يصير تطرفا، وإظهار التميز يصير رفضا للآخر، والجدال بالتي هي أحسن (بقصد إظهار الحق) يصير هدما للوحدة الوطنية، وتفسير النصوص التي تتعرض لعقائد الآخرين يصير ازدراءً للأديان في الوقت الذي تفتح فيه كل المنابر الإعلامية للذين يزدرون الإسلام ومقدساته … إلخ.

وهذا كله يؤدي إلى تسطيح المفاهيم الإسلامية، وتقليص عناصر الهوية، وإزالة العناصر الجوهرية التي تتميز بها العقيدة الإسلامية؛ سعيا في اتجاه (وحدة الأديان وتساويها)، فتصير الساحة مهيأة لسيطرة مفاهيم الحضارة الغالبة (حضارة السيد الغربي) بعد تفريغ مفاهيم الحضارة الأصيلة من مضامينها الأصلية القادرة على المقاومة الحضارية. يتبع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.