شعار قسم مدونات

فلتسقط أقنعتنا الزرقاء

مدونات - موبايل

كم توجسنا في الأيام الأولى للفاسبوك من الوضع المفتوح الذي قد يُدْخلنا فيه هذا العالم الجديد الذي لم نَعْتَدْهُ، وقد اعتدنا أننا نخاف دوما من كل جديد، لكن الفيسبوك كان أقوى لأنه فرض نفسه على الجميع.. وأصبحنا شبابا وشيوخا؛ نساء ورجالا؛ عقلاء ومراهقين نملك حسابات فيسبوبكية.. ولَكَمْ تَعْتَريني موجةٌ من السُّخرية- من نفسي أو غيري- عندما كنا نرفض في البداية أن نضع صورتنا الحقيقية وإن لم نُقَنِّعْها بأسماء كاذبة..
 

حقيقة أصبح للفيسبوك عالمُه الخاصّ؛ ولغته الفريدة؛ وحروبه الشرسة التي يخوضها مرتادوه بلا هوادة؛ حتى إذا قاموا صباحا؛ ضحكوا ولعبوا مع خَصم الأمس؛ وكلاهما لا يدري أنَّهما دخلا في خُصومة البارحة..
 

من غرائب هذا العالم أن أكثر البنات لا يذكرن أبدا أسماءهن الحقيقية؛ حقيقة ألا يدعو التَّخَفِّي وراء اسم وهمي إلى الشك والريبة، أليس الأنسب أن نتخاطب بأسمائنا الحقيقية ذكرا كان صاحبها أم أنثى؛ حتى لا نَترك مجالا للشبهة،.. عن نفسي أُفَضِّلُ أن أخاطب الكلّ في وضح النهار..
 

لعل العوالم الافتراضية لم تصنع شيئا غير أنها نقلت الكثيرين من ممارسة الحياة الافتراضية إلى ممارستها أمام الحواسيب، أو بين يدي الهواتف.. لكنَّها صنعت بنا معروفا؛ فقد أصبحنا نرتدي لأجل ذلك أقنعة.

دعاني ذلك إلى العودة لحياة الرسول عليه الصلاة والسلام فعلا كم كان راقيا وصرنا متخلفين؛ كم كان واضحا منسجما ووقورا، "أحبُّ النساء إلي عائشة" يقولها لأصحابه، و"هذه صفية" يقولها لمن ابتعد حين رآها تأتي وهو معتكف-عليه الصلاة والسلام-، وما زلنا لا نذكر أسماء أمهاتنا أو زوجاتنا في ملأ من الناس وإلا فقل على مروءتك السلام..

من العادات التي تَتَكَرَّرُ في الفضاء الأزرق؛ أنّ أشدَّ المُتَعَنِّتِين وأشجع المُناقشين لا يملك اسما حقيقيا، وأنه إذا اشتَدَّ الحوار ينسحب يجرُّ معه بطولاته من الردود؛ ويتركك وحيدا كأنك كنت تُكَلِّمُ نفسك أو خيالك.. ومن العادات التي تتكرر دائما؛ أنه ما إن يبدأ كلامك في التأثير على مجموعة أنت عضو فيها؛ حتى يُسَلِّطَ عليك "الأدمن" وزبانيته من أعضاء المجموعة المُقَنَّعين أيضا؛ من يكيل عليك بكل أنواع السّباب والشّتائم؛ حتى تلعن اليوم الذي دخلت فيه هذا الفضاء؛ وإن لم تنسحب كن مطئنا سيُرسِل لك على الخاصّ من يَفعل ذلك برسائل مُتتالية لا تَمَلُّ حتى تنسحب ومعك شيء من الكرامة..
 

طبعا بعد أن تَتَعوَّد على الأمر ستعرف القاعدة التالية: ما دام جيش الشتائم قد اشتغل فإن هذا الأدمن إما خائف على مكانته في المجموعة التي يديرها؛ لأنه لا يريد أحدا سواه يحكم الصفحة، وإن أصررت على البقاء فالحَجب أو الحَضر لتعليقاتك أو ردودك أو لعضويتك في المجموعة هو العقاب الأمثل..

قد نَغْنَم ببروفايلات رسمية لكن أصحابها -خاصة بعض المنتسبين للطبقة النخبوية المثقفة- تتبادل الإشارات المُحبطة في صورة مقولات توحي بالعمق؛ أو تقدِّمُه لك سرابا لتَخرُج باللامعنى، أو تخرج بمعنى واحد؛ وهو أنه دونكيشوتي يُحارب طواحين الرِّياح، يا لها من معارك. وراء هذه البروفايلات الوهمية كم عاد شيوخ لسني المراهقة؛ وكم استهزأ أولاد من سُذَّج؛ وكم عاشت بنات مسكينات في الخيال أو لعلهن وقعن فيما لا يحمد عقباه.

كم أَستَغرِب عندما أرى بعض البروفايلات؛ من خمسيني أو ستيني يأخذ سيلفي لمجلسه الصباحي في المقهى، وجولته المعتادة في الحديقة، ومروره الدوري على بائع الساندويتش، ولقائه بأحد الأصدقاء، ومجلسه المسائي أيضا في المقهى، وفي كل أسبوع تتكرر نفس الصور، هل يعتقد فعلا أن الأمرَ بهذه الجدية، أم هي نرجسية فقدها فيما مضى من عمره؟ كم تُحَيِّرُني أيضا صور "السيلفي" إلى جوار الكعبة المشرفة؛ في أثناء أداء العمرة أو الحج، والابتسامة طبعا لا تغيب…هل يجد وقتا لهذه التفاهة وهو في أقدس مكان على وجه الأرض؟

أحيانا يختلط على كثيرين التفريق بين الواقع والخيال؛ عالم الفضاء الأزرق الفيسبوك أو التويتر وغيرها لا تملك غير بعد واحد؛ بقناع واحد؛ يمنحنا الحق في فعل كل شيء؛ حتى ضاع فيه الكثير.

يمنحنا الفيسبوك قدرات خيالية على التَّجمل حتى أصبح الوهم ألذ وإن كان سرابا، وأصبحت صورته أكثر أهمية من حقيقتنا. لعل العوالم الافتراضية؛ لم تصنع شيئا غير أنها نقلت الكثيرين من ممارسة تلك الحياة الافتراضية يوميا إلى ممارستها أمام الحواسيب؛ أو بين يدي الهواتف.. لكنَّها صنعت بنا معروفا؛ فقد أصبحنا نرتدي لأجل ذلك أقنعة..
 

أحيانا يختلط على كثيرين التفريق بين الواقع والخيال؛ عالم الفضاء الأزرق الفيسبوك أو التويتر وغيرها لا تملك غير بعد واحد؛ بقناع واحد؛ يمنحنا الحق في فعل كل شيء؛ حتى ضاع فيه الكثير، ربما يعكس هذا حالة الازدواجية التي نعيشها في مجتمعاتنا..

حين نستعرض حالة الازدواجية المنتشرة في الفضاء الأزرق؛ وتلك التي قرأناها في روايات نجيب محفوظ، نجد الأمر قد انعكس؛ كان "سي السيد" يمارس ازدواجيته داخل بيته وفي محله أمام عماله، ثم يخرج إلى عالمه الخفي في العوامة، أو كانت السطوح وأسفل المشربيات أمكنة ملائمة لتلك الازدواجيات، اليوم هي معك على الهاتف؛ حتى إذا أغلقته فقد نعود هؤلاء لعوالمنا الحقيقية..

أحيانا يُخيَّل إليك أن العالم يعيش هذه الازدواجيات خارج البيت حقيقةً، و مع هاتفه افتراضًا.. وللأسف لا نزال شخصيات في روايات نجيب محفوظ وإن انقلبت الفضاءات والأمنكة، لذلك أقول: فلنسقط أقنعتنا الزرقاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.