شعار قسم مدونات

الإضراب عن الطعام.. تأطير الفعل بالعودة إلى أزمنة النكبة

مدونات - الأسرى

في السابع عشر من نيسان/أبريل من العام الحالي والذي يُوافق يوم الأسير الفلسطيني، دشّن ما يُقارب 1700 من الأسرى الفلسطينيين فصل جديد من فصول النضال والمواجهة مع المحتّل السجان، إذ دخلوا في إضراب جماعي مفتوح عن الطعام إلى حين تحقيق مطالبهم المشروعة في ظروف اعتقال إنسانية تراعي الحدّ الأدنى من متطلبات الكائن الإنساني وحاجاته للتواصل والرعاية الطبية وغيرها>

وخلال أيام الإضراب بَعثَ الأسرى المضربون عن الطعام أكثر من رسالة إلى جماهير الشعب الفلسطيني تدعوهم إلى أن يكونوا بمثابة حاضنة شعبية داعمة للإضراب عبر تكثيف التضامن معهم من خلال إتباع استراتيجيات المقاطعة والعصيان المدني والاشتباك مع الاحتلال في نقاط التماس المباشرة معه، وذلك كلّه بما يُمكنُه أن يُشكّل وسيلة ضغط فعالة على سلطات الاحتلال تخضع إثرها لمطالب الأسرى المضربين في سجونها.
 

أخطر ما يواجهه الأسرى المضربون عن الطعام في معركتهم العادلة، هو تلك النظرة المجترأة التي تنظر بها جماهير الشعب إلى فعلهم باعتباره "معركتهم العادلة" وحدهم، لا معركة الشعب كلّه والوطن كلّه>

وعلى الرغم من توافر مستويات دعم شعبية مقبولة -نسبياً- في أولى أيام الإضراب تعددت أشكالها -ما بين نسب تواجد شعبي مرتفعة في خيم التضامن والاشتباك مع الاحتلال في مناطق التماس المباشرة معه..- إلا أنّ هذه المستويات تضاءلت بشكل لافت بعد مرور شهر على الإضراب، ويبدو ذلك واضحاً عبر ما يُنشر على صفحات التواصل الاجتماعي من فيديوهات تتضمن صرخات لأمهات أسرى يُعبِّرنَ عن حالة الخذلان التي أصابتهنّ بسبب حالة الاستهتار الموجودة على المستويين الشعبي أو الرسمي القيادي بحياة أبنائهنّ وعدم توفير الدعم المطلوب لهم بما يُساعدهم في ربح معركتهم العادلة.
 

لكنّ ما علاقة معركتهم العادلة بالنكبة والعودة إلى السياقات الكلية، أي العودة إلى البدايات؟
إنّ أخطر ما يواجهه الأسرى المضربون عن الطعام في معركتهم العادلة، هو تلك النظرة المجترأة التي تنظر بها جماهير الشعب إلى فعلهم باعتباره "معركتهم العادلة" وحدهم، لا معركة الشعب كلّه والوطن كلّه. نعم، إنّ هناك ضرورة واجبة لإعادة النظر إلى فعل الإضراب عن الطعام من زاوية المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني على أرض فلسطين والذي له جذور تعود إلى ما قبل النكبة؛ إلى نهايات القرن التاسع عشر عندما شرع ثيودور هرتزل بالتخطيط لمشروع إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وقام بتأسيس الحركة الصهيونية للاضطلاع بهذا الهدف، فـأخطر ما حمله هذا المشروع الاستعماري الصهيوني هو الطابع الإحلالي له، والطابع الإحلالي يعني أنّ هدفه يتجاوز مسألة سلب الأرض الفلسطينية والاستيلاء عليها إلى محاولة الإحلال السكاني فيها، أيْ استبدال الشعب الفلسطيني بشعب آخر ومحوه بالكلية.
 

وإنّ مساعي هذا المشروع لم تتوقّف عند حدّ محاولة محو الفلسطينيين، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة محو الأثر الاستعماري له، عبر إجبار المحيط من حوله على التعاطي مع دولته كدولة طبيعية لا ككيان دخيل أُنشِئَ على أنقاض بلد وشعب آخريْن. ومن هنا، ونظراً لهذا الطابع الإحلالي التي حمله هذا المشروع الاستعماري الصهيوني، والذي لا يستهدف فقط محو وإلغاء السكان الأصليين بل يقع في قلب أهدافه محو وإزالة الآثار الاستعمارية المترتبة عليه، فقد مثّلت المقاومة الطريقة الوحيدة أمام الشعب الفلسطيني كي لا يندثر، وذلكَ لأنّها الشيء الوحيد الذي من خلاله وعَبرَ طُرِقِه يستعيد الشعب الفلسطيني الشعور بالأثر الاستعماري الواقع عليه، ويُعيد تعريف علاقات القوة الاستعمارية كعلاقة مقاومة دائمة ومستمِرَّة بينه كمستعمَر وبين الاحتلال الصهيوني كمستَعمِر.

وإذا كانت المقاومة هي الطريقة الوحيدة للوقوف في وجه المشروع الاستعماري الصهيوني، فإنّ الأسر هو نتاج لفكرة المقاومة والممارسة الفعلية لها على الأرض، ومن هذه النقطة بالذات -واستلهاماً لمحاضرة الدكتورة لينا ميعاري المنشورة على يوتيوب تحت عنوان: الإضراب عن الطعام- يُمكن البدء بالحديث عن فعل "الإضراب عن الطعام" باعتباره فعلاً ثورياً مرتبطاً بحقيقة التواجد الاستعماري في فلسطين>

حيثً أنّ الأسرى يسعون عبره إلى إعادة علاقة القوة الاستعمارية -الموجودة داخل السجون- إلى طبيعتها الأولى كعلاقة مقاومة تتسّم بالديمومة والصيرورة، فالاستعمار الصهيوني يفترض أنّ وقوع الفلسطيني في الأسر قد مثّل نقطة النهاية بالنسبة له، فلا مجال بعد هذه النقطة ليستأنف الفلسطيني المستَعمَر نضاله ضدّ المستَعمِر، لكنّ الفلسطيني يتمكّن دائماً من دحض افتراض المستعمِر، وذلك عبر قيامه بفتح واجهات مواجَهة جديدة يُعطي من خلالها امتداداً لخطوط الوضوح في حدود علاقة المقاومة الطبيعية بينه وبين المستعمِر.

فعل الإضراب عن الطعام الذي يُقدِم عليه الأسرى هو مواجِهة واعية بأهدافها ومطالبها يسعى عبرها الأسير إلى أن يُثبت للمستَعمِر السجان أنّه حتى وهو مقيّد ومكبّل وفي أضعف حالاته لا يعدم الوسيلة من أجل فتحات جبهات وواجهات جديدة للمقاومة.

وضمن هذا السياق، يُمكن اعتبار فعل الإضراب عن الطعام إحدى واجهات المقاومة والمواجهة الجديدة التي يفتحها الفلسطيني مع المستَعمِر بعد أن افترض الأخير أنّه تمكّن من شلّ نضاله بعد عملية أسره. إذن، ففعل الإضراب عن الطعام الذي يُقدِم عليه الأسرى هو ممارسة ثورية مقاوِمة ومواجِهة واعية بأهدافها ومطالبها يسعى عبرها الأسير إلى أن يُثبت للمستَعمِر السجان أنّه حتى وهو مقيّد ومكبّل وفي أضعف حالاته لا يعدم الوسيلة من أجل فتحات جبهات وواجهات جديدة للمقاومة والنضال سلاحه فيها جسد هشّ وصلابة وعزيمة قويتان تُقوّمان هشاشة الجسد وتُعطيانه الثبات المنبثق من قاعدة الإيمان الراسخ بالحقّ والوطن والأرض.

أخيراً، فإنّ هناك حاجة ملِّحة إلى إعادة تأطير فعل الإضراب عن الطعام ضمن السياقات الكلية التي وُجد فيها، وذلك عبر العودة به وربطه بالبدايات وبحقيقة التواجد الاستعماري على أرض فلسطين، فمن خلال ذلك فقط يُمكن إعادة توجيه أنظار الجماهير الفلسطينية نحو بوصلة المقاومة الفلسطينية، وهو ما سيدفعهم إلى إعادة الالتفاف الجماهيري حول الأسرى بالضرورة>

فمن يُدرك أنّ المقاومة كانت ولا زالت تُمثّل الأساس في الوقوف في وجه مشروع استيطاني استعماري إحلالي، يُدرك أنّ معركة الأسرى هي معركته، لأنّ الأثمان الباهظة التي يدفعها هؤلاء الأسرى الآن كانت بسبب اختيارهم لطريق المقاومة التي هي طريقه أيضاً، فحتى وهم داخل الأسر لم يعدم الأسرى الوسيلة في ابتداع طرق مقاومة ومواجهة جديدة للسجان المستعمِر، ولن يكون الإضراب عن الطعام آخرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.