شعار قسم مدونات

هل رأيت شقاءَ قط؟

الحرية

(1)

يومان وليلة من السير، مشيا على الأقدام فى الشمس الحارقة، ورقادا فى العراء بالليل البارد، لم يترك نفرا من الناس على تلك الطريق إلا وكلمهم فى أمره وفى أمر ما هو خارج من أجله، لكن لم يجبه أحد.

 

وصل إلى البلدة، مكث فيها عشرة أيام كاملة، يقابل وجوه القوم ويجلس إلى شرفائهم ويكلم العقلاء منهم، لكن العقل هناك كان عزيز، عشرة أيام لم يجبه فيهم أحد، فى الصباح عليه أن يقطع تلك الطريق الطويلة عودة كما قطعها جيئة، هم يملأ الأفق أن لم يخرج من رحلته بواحد فقط.

 

لم يكتفوا بأن صدوا عنه، بل ما إن علموا بخروجه حتى احتشدوا له، ورموه بالسباب والحجارة حتى جاء حجر فى قدمه فجرحت، وحجر آخر فى رأس غلامة فشُج، لم يلتقطا أنفاسهما إلا قُبالة جدار ذلك البستان خارج البلدة.

 

….

 

أخبريني يا خالة بأشد يوم أتى عليه.

 

– إيه يا عروة، لقد سألته ذات يوم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم الطائف.

 

هكذا أخبرت عائشة رضى الله عنها ابن أختها عن أشد الأيام التى مرت على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقط أتخيل أن إنسانا عاديا أتى بدعوة ما أوذى بها وأوذى من معه لأعوام، كان آخرها ثلاث فى سجن كبير أكلوا في آخرها أوراق الشجر من الجوع، ثم ما إن انفرجت حتى قبض الله حاميه فسنده، عمه وزوجته معا، ثم هو يخرج إلى تلك المدينة البعيدة فيكون هذا ما يلاقيه.

 

لوحة قاسية، لو أن الله لم يكتب على شخص سواها من الشقاء لوفت نصيبه من البأس والشدة فى طول الحياة المقدرة له.

 

(2)

أيهما أقسى على الإنسان، موت ولده صغيرا قبل أن يكبر أمام عينه ويراه فتيا منطلقا، طفلا يرى مهده قد صار له قبرا، أم موته كبيرا بعد أن يكون قد صحبه عمرا طويلا، ثم يسبقه الآن إلى القبر بعد أن صار أحوج الناس إليه فى هرمه، أيهما أشد .. تلك القهرة المسرفة فى أحلام المستقبل الذى انهار قبل أن يبدأ، تلك الأيام والأحلام التى لم تأت، وما دبت فيها الحياة إلا وميضا فى الذهن ما لبث أن خبى وانطفأ، أم ذلك الحزن الممتد فى أعماق الزمن والذكريات والأيام التى انقضت سريعا بعد طريق طويل؟ لا أحسب أن فيها حظ لمختار.

 

فما بالنا برجل نعرفه مات عنه الصغير الذي لم يحل عليه الحول، والكبير الذي عمّر معه إلى ما بعد الخمسين، ولا لم يكونا اثنين فقط ولا ثلاثة، بل كانوا ستة، نعم ستة من الأبناء ذكورا وإناثا، بدؤا بالقاسم وانتهوا بأم كلثوم، ثلاثة ماتوا صغارا، القاسم وعبد الله ثم إبراهيم، وثلاثة قبضن فى آخر سنين عمره (صلى الله عليه وسلم): زينب ورقية ثم أم كلثوم.

 

لم قد يُبتلى النبى بموت الأبناء، هل تتصور هذا النوع من الشدة والشقوة، هل رأيت النبى عائدا من بدر منتصرا وشفاء الصدور يملأ الناس فرحا ليجد قبر رقية قد سوىّ وقضت فى اليوم الذى أتت به بشارة النصر، هل رأيته يقف على قبر أم كلثوم دامع العينين فى عام تبوك، تحلق بأختها الكبرى التى ماتت قبل عام فقط، هل رأيت أدمعه والشمس كاسفة يتمتم يوم إبراهيم "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع .. وإنا لفراقك لمحزونون"

 

محزون كان قلب النبي، محزون على زوجة ماتت بعد أن قضت معه خمسة وعشرون سنة، محزون على بنين وبنات قضوا جميعا ما عدا فاطمة التى لحقته بعد وفاته بستة أشهر فقط، ولو أنه قيل لى بأن رجلا قدر الله له من شقاء الحياة ذلك الفقد لقلت قد كفاه.

 

(3)

ربما يتحمل الإنسان ألوانا من البلاءات دون ألوان، ربما يتحمل الرجال الحرب والأسر والسياط على الظهور، ربما تتحمل النساء الفقد والألم ووهن الجسد وانكسار الفؤاد، لكن بعض الأحمال لا يمكن لإنسى سَوى أن يتحملها إلا وقصم ظهره. جرب أن تُتّهم فى مال أو عرض حتى تعرف.

 

لا أسوء من تهامس المتبرصين والمغرضين، من يروك كل يوم متمنين لك الزوال، يتحينون كل فرصة كى ينفذوا إليك طعنة تجهز عليك، ثم لا يهتدون إلا إلى فرية العرض كى يلقوك بها، ويا ليت الفرية هنا تطولك فقط، بل تطولك وتطول أشد من تحب.

 

" يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ " .. تنفجر عائشة فى البكاء بعد أن تسمع من أمها الذى كان من أمر الإفك، شهر كامل والنبي (صلى الله عليه وسلم) لا يبين لها شيئا وهى مريضة فلا ترى اللطف الذى يكون منه فى مرضها، ثم تعرف من جارة لها همهمات الناس فتذهب لأمها كى تستوضح فتجيبها وتقص عليها ما يقال.

 

غمسة واحدة، تمسح له ذاكرة الألم والكدر كأن شيئا لم يكن، وتفتح له كل أبواب التنعيم الأبدي، أما سلواه فى الدنيا من الدنيا، فيكفيه ما لاقى رسول الله، فليقس كل شقاء عليه ليعرف أنه لم ير شقاء قط.

ليال لم يرقأ لعائش بنت الخمسة عشر عاما دمع ولا تكحلت بنوم، والنبي يخطب فى الناس عن الأمر، وتقوم الثائرات ويكاد الناس يقتتلون فى المسجد وهو على المنبر، حتى يأتيها النبى فى بيت أبيها ويكلمها لأول مرة، يجلس إليها وقد نضب ماء وجهها من أثر السهر والبكاء: إن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه.

 

يسكت الدمع، تمر اللحظات بطيئة بعد أن قضى رسول الله مقالته، يقلص الدمع فى عينها حتى لا تكاد تحس منه دمعة، تولى شطرها صوب أبيها وأمها تحاول أن تستنطقهم، تنفلت منها الكلمات فى نحيب مبحوح: أجب رسول الله عني فيما قال، أجيبي رسول الله عني فيما قال، وأبو بكر وأمه لا يجدان إلا: والله ما ما نقول لرسول الله.

 

ما أقسى ما لاقى النبى وحبيبة قلبه، أكثر من شهر حتى يبرأ الله أمنا عائشة، أكثر من شهر يبتلى الله قلب النبى وزوجه بهذا البلاء الشديد المزلزل، فوالله لو لم يكن لإنسان حظ من بلاء فى الدنيا غير هذا لظل طوال الدهر يذكر شدته وقساوته.

 

(4)

– هل رأيت بؤسا قط؟ هل مرت بك شدة قط؟

– لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط.

 

هذا هو أشد الناس بؤسا يوم القيامة بعدما يغمس فى الجنة غمسا، هذه سلواه فى الدنيا، ما سيلاقيه فى الآخرة، غمسة واحدة، تمسح له ذاكرة الألم والكدر كأن شيئا لم يكن، وتفتح له كل أبواب التنعيم الأبدي، أما سلواه فى الدنيا من الدنيا، فيكفيه ما لاقى رسول الله، فليقس كل شقاء عليه ليعرف أنه لم ير شقاء قط. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.