شعار قسم مدونات

فلسطين البرادايم الذي ضيّعناه

blogs - فلسطين
عندما قال عبد الرزاق مقري في حملته الانتخابية لتشريعيات 2017، إن هدف حركته هو تحرير فلسطين، ثارت ضدَّه موجة من السُّخرية في أوساط الشعب الجزائري الذي كانت الانتخابات برمَّتها بالنسبة لأغلبه لا حدث… سفّه شباب فايسبوك خطاب مقري وطالبوه بالالتفات إلى مشاكل بلاده، بدل استيراد قضايا الآخرين، رغم أن الشعب الجزائري كان ولا يزال نصير القضية الفلسطينية المقدَّسة في وجدانه، ورغم أن أدبيات حمس نفسها تعتبر فلسطين قضيتها المركزية منذ كانت حماساً في عهد الشيخ نحناح رحمه الله، فما الذي تغيّر ليتحوّل الحديث عن تحرير فلسطين إلى مجال التَّنكيت والسخرية عند شعب ثائر بطبعه، خبُر ذلَّ الاحتلال وقهره عقودا من الزمن.
 
لم يخطئ مقري؛ فقد كان متَّسقا مع ذاته الأيديولوجية والسِّياسية، ولا يذكر التاريخ أن شعبا من الشعوب اجتمع على خطأ، وكذلك هو شعب الجزائر، الذي أدرك بحدسه الثوري ضد المستعمِر البارحة، وخبرته الثورية الأليمة ضد حاكم زمن ما بعد الاستعمار والثائرين عليه معا، أن علّة تعثُّر التحرير والتنوير تقع في مكان آخر بعيدا عن السِّياسة والدين المُسيّس معا.

اعتبر الشعب الجزائري أنّ مقري، وهو يردِّد خطاب تحرير القدس جهارا في زمن الانتخابات، يحاول القفز على استحقاقات الواقع باسم فلسطين، رغم أنه طرح برنامجا انتخابيًّا مثاليا لمواطن لا يكاد يستشعر معنى السياسة، فضلا عن ممارستها منذ حوّلته ذات عقد مرير لقمة سائغة للمُتسلِّقين على أكتاف الوطن باسم التاريخ والإسلام… يحدث أحيانا أن تخدش قدسيّة القضية وحرمتها حين تتناولها بشكل فجٍّ مباشر، فتتحوّل إلى قضية نمطيّة تسخر منك لا منها الألسن السيبرنيتيكية، فالمجاز هو عين الرفعة والتعفُّف، يجعل بينك وبين الواقع هالة يصعُب على ضيِّقي الأفق والنّفَس اختراقها.
 
سنتفهّم أننا في حمى الحملات الانتخابية قد نفقد هدوء اللغة ومجازيتها، وعمق الفكرة وبُعدَها، لكن ما لن تفهمه الشعوب ولا يغفره التاريخ والوطن هو أن لا نتبيّن اتّجاه البوصلة، فننطلق من الجزائر لنصل إلى فلسطين، عِوض أن ننطلق من فلسطين لنصل إلى الجزائر، فتحرير الأرض على الأرض هي مهمة أبنائها، المُشتبٍكون مع ترابها وتفاصيل الحياة عليها، المُقارٍبون عن كثب لخطة التحرير وسير النضال.

فلسطين التي ألهمتنا المعنى في زمن التيه، وجبرية واقع الاستبداد وتكبيل الأيادي والأقلام، أثثّت وعينا ونحن صغار نتابع بصرخة مخنوقة تفاصيل اجتياح مرير لجنين، واستشهاد الدرَّة، ومراسيم تشييع أبو عمار وياسين والرنتيسي.

وما زلت أذكر أنّني استوعبت هذه الحقيقة ذات لقاء لأبناء حمس مع أسامة حمدان في وهران عام 2009م، مباشرة بعد الحرب على غزة، عندما دخل القاعة بهندامه المفرط في البساطة والترتيب، وعطره الهادئ هدوء ملامحه وصرامتها، يشقُّ بخطوات سريعة واثقة صفوفنا نحن الذين اجتمعنا لنسمع حكايا عن بطولات وكرامات رجال القسام، فإذا بنا أمام رجل عملي لا يردِّد شعارات ولا خطبا، بل يقدِّم حقائق ودقائق ومنجزات على الأرض.

لخَّص حمدان حديثه المركّز في ثلاث نقاط: شكرٌ للجزائر والحركة على الدعم، وحديث عن المرأة الفلسطينية حصراً، ودورها المفصلي في صناعة الواقع الفلسطيني بكل تجلّياته، ثم الحديث عن جدول زمني دقيق لإقامة دولة فلسطين على حدود 1967م، حديث عن إقامة الدولة لا التحرير، ولهذا لم أستغرب أن تصدُر وثيقة حماس أخيرا لتُثبِّت هذا الهدف، فحماس التي وُلدت ونشأت على تراب فلسطين، وحُوصرت وشُرٍّدت قياداتها واغتِيلت؛ انتهت إلى الواقع كما انتهى إليه أبو عمّار، بغض النَّظر عن اختلاف الحيثيات والرؤى، يوم وقَّع بيان الاعتراف ذات أوسلو استنكره الثائرون عن بُعد، فخوّنوه وسفَّهوا مساره، ولم يُشيِّعوه شهيدا كما يليق بالثَّائر الوحيد في زمن التعفُّن والخيانة والخذلان، رغم كل خطايا التطبيق وأخطائه.

بدأ أبو عمار كما بدأت حماس بالمطلق لينتهي إلى النسبي في مُقاربة المصلحة الفلسطينية، وكذلك هي القضايا الكبرى مهما كانت نبيلة تبدأ مُطلقة مثالية، لتنتهي نسبية واقعية عندما تشتبك مع استحقاقات الواقع، وخرائط النفوذ والتَّدافع والتعارك.. حتى ولو كانت التجربة النبوية بقدسيَّة رسالتها ووثوقية غايتها.. كما عبّر عنها العروي في كتابه العبقري السنة والإصلاح، حين أقرّ أنّ النبي الكريم انتهى بعد تجربة روحية متعالية في مكة مُشتبِكا مع الإنسان المعارض المجادل حتى في الوحي في المدينة/الإمبراطورية .وكذا الصحابة والتابعين، الذين برغم قربهم من زمن النبوة وعذرية الرسالة، انغمسوا في الواقع وفِتنه، ونوازع النفس البشرية، ومسير أبو عمار ليس استثناء، ولا حماس فلسطين أو حمس الجزائر.

عندما تدرك كنه هذه الطبيعة البشرية في التدرج من التعالي إلى الواقعية، وتستوعب تجاذبات القيم في داخل الإنسان أثناء الهبوط والتحوّل، ستغدو سقطات أي فلسطيني محض تجربة إنسانية لا تبخسه شرف الشهادة والنضال إن اختارهما خطا في الحياة. هذه هي فلسطين الواقع والوقائع التي يصنعها أبناؤها، وهي غير فلسطين في مخيالنا..

إنّه الوطن، قيمة الانتماء وترسيمه، قيمة أوراقك الثبوتية حين تشهرها في وجه شرطة الحدود والطرقات، أو دوائر العمل والتسيير في الداخل.. قيمة الوطن الحاضر خصبا بخيرات أرضه، وأصالة تاريخه وتراثه.

ذاكرتنا نحن المستضعفين، فلسطين التي ألهمتنا المعنى في زمن التيه، وجبرية واقع الاستبداد وتكبيل الأيادي والأقلام، أثثّت وعينا ونحن صغار نتابع بصرخة مخنوقة تفاصيل اجتياح مرير لجنين عام 2000م، واستشهاد الدرَّة، ومراسيم تشييع أبو عمار وياسين والرنتيسي، وأطفال غزة المعلَّقين جثثا مكوَّمة على الشاشات… فداءً للوطن وتفاصيلاً مُغرقة في حبّه، وإثبات الهوية والانتماء للأرض والتاريخ وإرادة الحياة، فلسطين التي أراها كل صباح في عيني جارنا سي امحمد الذي استقدمته الجزائر مدرِّسا في زمن فراغ التأطير العربي اللسان بعد خروج المحتل، عيناه الغائرتان من أثر الشوق للوطن، ومرارة الذل والانتظار على معبر رفح الذي حرمه منذ سنوات نسمات غزة، وزيارة قبر والدته التي رحلت عن العالم دون أن تودِّعه الوداع الأخير، لتصبح الغربة غربات، تضاعفت مع مأساة أبنائه المحرومين من أي فرصة للعمل في الجزائر رغم حصولهم على شهادات عليا من جامعاتها، بسبب عائق الجنسية.
 
ستشعر بقسوة الشتات وذُلِّه عندما ترى أبناء سي امحمد بأخلاقهم العالية وسمتهم الساحر وحزنهم المركَّب، يحدِّثونك عن عدمية الحياة بعيدا عن الوطن، يأسرك الحديث مع نضال الشاب الذي درس البيطرة وهو ينتقل بخفّة روح ومنطق سليم من مناقشة قيمة الحرية واستشراف المستقبل إلى الحنق على سلطة رام الله، وهو يقلِّب بين أنامله جواز سفره الأسود الأنيق ساخرا: لم يمنحنا عباس سوى الختم على هذا الجواز… أو أن ترقب خفية ناهض الشاب الوقور، الحاصل على ماستر الرياضيات، جالسا في صباحات القرية الصغيرة قبالة المقهى، يراقب جموع التلاميذ العائدين من مدارسهم والعمَّال من وظائفهم، وهو المحروم من الوطن والمستقبل، أو أن تسمع ذات مساء حزين أن الوالد المفجوع في مستقبل الأبناء يفكِّر في إرسال ما تبقَّى منهم إلى غزة ليبقى وحيدا في منفاه يتجرّع ألم الغربة وبعد الأحبّة.

حين تجمع كلّ هذه التفاصيل وتُكثٍّفها في ذهنك ووجدانك ستتبيّن حتما النموذج وتُجرّده فتُعمّمه يوما بيانا لأبناء الوطن.. إنّه الوطن… قيمة الانتماء وترسيمه، قيمة أوراقك الثبوتية حين تشهرها في وجه شرطة الحدود والطرقات، أو دوائر العمل والتسيير في الداخل.. قيمة الوطن الحاضر خصبا بخيرات أرضه، وأصالة تاريخه وتراثه، وثراء مكوِّنات هويته، قيمة أن تقف بثبات على أرضٍ تحضنك وتمنحك كل أسباب الحياة لو أحسنت محبّتها وعمارتها..

هنا الجزائر وهناك فلسطين فلا تُحرقوا مراحل تجريد النموذج.. وأبقوا لنا فلسطين كما قال درويش يوما: أوسعَ من بلاد الناس…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.