شعار قسم مدونات

الأرض المحروقة في مصر

blogs- السيسي
في العام الماضي شهدت مصر تطويعا لبعض خصائص المجتمع المصري؛ كمجتمع إنساني له عاداته وطباعه الخاصة، وفيما يبدو أن هذا "التطويع" كان لأغراض سياسية وضمن أساليب "النظم الديكتاتورية" التي تريد أن تحقق أهدافها بسرعة استثنائية ودون توخي أي عواقب جراء الفعل الإجرامي أو السياسي، وكانت الظاهرة التي حدثت هو إشتعال الحرائق في أماكن مختلفة من "أراضي الجمهورية المصرية" علي نحو بات مريباً.
ولأن الديكتاتورية عادة تحرق بالنيران وبغيرها وكما تحرق الماديات، فهي أيضا تحرق وظائف الأشخاص وأدوار المؤسسات، حتي لو انتمي هؤلاء الأشخاص الذين حرقتهم السلطة، في فترة ما لذات النظام الديكتاتوري “الحارق”. وعندما حُرقت “البقاع“ الكثيرة في العام الماضي، فقد توجهت أصابع الاتهام فوراً لنظام الرئيس السيسي، وقد ردد المضرورون ذلك في صراحة وقالوا إن النظام أعاد “حريق القاهرة” الذي حدث عام 1952 في صورة جديدة مرة أخرى.

كان التوظيف السياسي للحرائق واضحا، فقد كان من الاتساع بحيث كان “ظاهرة “ كما أن الحرائق كان يغلب عليها “التدبير“ الذي يهدف إلي الوصول إلي أهداف محددة “جلية“ لمن يرى، واستغلالا للطبيعة المجتمعية المصرية، فمصر كمجتمع بشري عرفت الحرائق كحوادث وكمصائب بشرية واجتماعية وعرفتها كذلك كأعمال إجرامية انتقامية يمارسها البعض ضد البعض، وعرفتها كسلوك شخصي غريب كما يحدث في حالات إنهاء الحياة. وفي مصر تقع الآن مثل هذه الحوادث بالانتحار بحرق النفس، كنوع من الاحتجاج السياسي وكنوع من التعبير القاسي جدا عن العجز في الاستمرار على قيد الحياة، لعدم توافر الدخل والعمل الذي يأتي بضرورات المعيشة.

موسم الحرائق الذي ضرب مصر العام الماضي جاء في أعقاب اضطراب سياسي شديد تعرض له نظام السيسي، وصل لقمة اضطرابه، مع انكشاف حجم التنسيق غير المسبوق مع إسرائيل، وإحياء مشروع الشرق أوسط الجديد.

الآن الحرائق المعتادة في مصر تزداد وتيرتها، قبل يوم 30 يونيو من كل عام، فهو اليوم الذي يتم فيه الانتهاء من مراجعة أعمال السنة المالية، في المصالح والمصانع والمخازن والهيئات والشركات والمؤسسات والوزارات في الدولة، بحيث يكون الأول من يوليو، هو بداية السنة المالية الجديدة، كما يكون بداية تطبيق الموازنة المالية الجديدة في الحكومة المصرية. وفي المناطق التي يكون بها خلل إداري وخسائر أو اختلاسات أو سرقة غير مغطاة، يتم عادة تسوية هذه الأمور دفتريًا، بإحداث حرائق تلتهم المخازن والبضائع والأماكن، فيتم بذلك تسوية المختل دفتريا، بالحرق واقعيا.

وفي العام الماضي 2016 يبدو أن جهة ما أو أصحاب مصلحة ما قد تحركوا لاستغلال "موسم الحرائق المصري" وهو الموسم المعروف مثل “موسم حصاد القمح“ و“موسم فيضان النيل”، واختاروا أن يضرب، ليس في القاهرة الكبرى فقط، حيث تتركز الحياة المصرية النشطة، بل اختاروا أن تمتد ضربات الحرائق في أنحاء البلاد كلها. وهو ما كان يشير إلى أن الإستهداف من هذه الحرائق، قد نحي بعداً سياسيا خالصاً، فقد طالت الحرائق مخازن للأثار في سوهاج في الطريق الواصل إلى البحر الأحمر، إلى جانب حرائق وسط البلد ”في القاهرة“ في منطقة العتبة والرويعي وشارع الجيش وهي المنطقة التي تتصارع عليها شركات عالمية متعددة الجنسيات، تعمل في تجارة عقارات القاهرة الخديوية الأثرية.

وكان موسم الحرائق في مصر في العام الماضي، قد بدأ في منطقة الرويعي والعتبة في بروفة جنرال، قبل أن يبدأ الحرق الفعلي لثروات المصريين البسطاء ومدخراتهم وأماكن عملهم وفنادقهم في باقي المناطق، وقد حدث هذا بالفعل في "حريق العتبة الكبير" ثم حدث الحريق المفاجئ في الدور الرابع من مديرية أمن الجيزة، في عشية وصول وفد تحقيقات إيطالي، أتى للقاهرة للحصول علي معلومات يتطلبها استكمال تحقيقاته في مقتل الباحث الإيطالي "جوليو ريجيني"، والذي قتل في مصر واكتشفت جثته في يوم 3 فبراير 2016. والذي كان اللواء الشرطة المصري خالد شلبي، مدير مباحث الجيزة “وقتها” قد أعلن فور اكتشاف الجثة أن جوليو ريجيني قد قتل في حادث سير، وأصبح الربط ممكنا ما بين حرق المكان الذي يتصور الجانب الإيطالي الحصول منه عن معلومات مطلوبة لهم، وبين الحريق الذي نشب في ذات المكان.

في هذا العام وفي الموسم المعتاد للحرائق، فقد قام النظام بإشعال حرائق من نوع آخر، فقد حرق النظام مؤسسات الحكم المستقلة كالمؤسسة القضائية وكالمؤسسة البرلمانية من أجل إخضاع المجتمع المصري.

وكان موسم الحرائق “الغامضة“ والذي ضرب مصر في العام الماضي قد جاء، في أعقاب اضطراب سياسي شديد تعرض له نظام السيسي، وصل إلى قمة اضطرابه، مع انكشاف حجم التنسيق غير المسبوق مع إسرائيل، وإحياء مشروع الشرق أوسط الجديد الموسع والذي ضم المملكة السعودية، بعد أن “أعطاها“ نظام السيسي الجزر المصرية الأربع الرئيسية في مداخل خليج العقبة: وهي تيران والصنافير وأبو شوشوة وبرقان، والتي فشل السيسي وكل نظامه في عكس حقائق التاريخ والسيادة المصرية علي الجزر والادعاء بأنها سعودية الأصل، وأن مصر قد ردت الأمانة للسعودية برد الجزر. وقد تحرج موقف النظام المصري بشدة في أعقاب ذلك إلي درجة اعتقال كل من قال بصوت عال إن الجزر مصرية.

ودفعت هذه الإجراءات العنيفة التي مارسها نظام السيسي بشكل علني، إلى طرح التساؤل عن مدى استخدام النظام للعمليات السرية، للخروج من المأزق السياسي. وكانت نظرية المؤامرة حاضرة لتفسير الحرائق التي حدثت بشكل غير مسبوق في مصر وهو ما دفع كثيرين للقول دون مواربة: بأن "النظام هوه إللي حرقها" إن لم يكن بأجهزته، فقد حرقها بتقاعسه عن الالتزام بحمايتها.

وفي هذا العام وفي الموسم المعتاد للحرائق، فقد قام النظام بإشعال حرائق من نوع آخر، فقد حرق النظام مؤسسات الحكم المستقلة كالمؤسسة القضائية وكالمؤسسة البرلمانية من أجل إخضاع المجتمع المصري واستمرار السيطرة عليه وتحصينا للرئيس الذي طرح نفسه مجددا كرجل لإنقاذ مصر بأن يستمر في الحكم لولاية ثانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.