شعار قسم مدونات

هل أتاكَ نبأ "ابن حميدو"؟

blogs- البحرية العثمانية
كلا، هو ليس الفيلم الذي أنتجته السينما المصرية سنة 1957م، وإنّما البطل الذي شوّهه هذا الفيلم وأظهره كأبله ويدعو للسخرية والاستهزاء، شأنه شأن كثير من القادة ورموز الجهاد الإسلامي الذين حرصت السينما العربية والعالمية على إظهارهم كمجرمي حرب وسفاكي دماء، أو سُذَّجاً بُلهاء. – وقام بدور "ابن حميدو" الممثل المصري الراحل إسماعيل ياسين.. والمحزن أنّ هذه الصورة السلبية والمفتراة ترسّخت في عقول وأذهان الكثيرين. فمن هو بطلنا الحقيقي؟.

إنّه محمد بن علي الشهير بـ"الريس حميدو" أو "ابن حميدو"، من أعظم قادة البحرية الإسلامية، وأوّل مَن صفع الولايات المتحدة الأمريكية على وجهها. وُلد ابن حميدو سنة 1770م في إحدى قرى الجزائر، وكان أبوه خياطاً بسيطاً، لكن الطفل حميدو لم يكن متحمّساً لحرفة أبيه، بل كان عاشقاً للبحر ومعجباً جداً بالقصص والحكايات التي يسمعها عن ريّاس البحر في ذلك الوقت، فكان يتردد على السفن و يشارك البحّارة في رحلاتهم.

وُلد ابن حميدو سنة 1770م في إحدى قرى الجزائر، وكان أبوه خياطاً بسيطاً، لكن الطفل حميدو لم يكن متحمّساً لحرفة أبيه، بل كان عاشقاً للبحر ومعجباً جداً بالقصص والحكايات التي يسمعها عن ريّاس البحر في ذلك الوقت، فكان يتردد على السفن و يشارك البحّارة في رحلاتهم.

التحق بالبحرية العثمانية وعمره ثلاثة عشر عاماً، وأثبت جدارة عالية جعلته يترقّى في المناصب القيادية البحرية، وأصبح أمير البحرية في الجزائر وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وعلى الرغم من أن قيادة البحرية كانت تُسند دائماً للأتراك إلا أنَّ كفاءة ابن حميدو وبراعته جعلت السلطان العثماني يختاره ليقود البحرية العثمانية من أرض الجزائر.

كان صعود ابن حميدو وتسيّده على إمارة البحرية يتزامن مع قيام الثورة الفرنسية ومجيء نابليون للحكم، وما أعقبه من فوضى عارمة في أوروبا، واستطاع بطلنا خلالها من انتهاز هذه الفرصة لتقوية الأسطول الجزائري، فقُدِّرَ عدد البحارة الجزائريين في عهده إلى أكثر من 130 ألف بحار، كما جاء في «تاريخ الجزائر في القديم والحديث».

وتمكن الأسطول الجزائري من الوصول بعملياته إلى اسكتلندا والمحيط الأطلسي وبثّ الرعب في أوروبا، كنوع من أنواع الرد على الاعتداءات الأوروبية على المشرق الإسلامي خصوصاً الحملة الفرنسية التي جاءت لاحتلال مصر في 1798م. وذكر كتاب «تاريخ الدولة العثمانية» أنّه في إحدى المعارك البحرية نجح "ابن حميدو" في الاستيلاء على واحدة من أعظم السفن البرتغالية، وهي السفينة «البورتقيزية»، التي كانت مزودة بحوالي 44 مدفعا وعلى متنها 282 بحارا، ثم السفينة الأمريكية «أمريكانا»، وأصبح أسطوله الخاص مكونا من 3 سفن بالإضافة إلى سفينته، ومن 44 مدفعا، وبها فرض سيادته على البحر لأكثر من 25 عاما.

وفي زمن قيادته للبحرية الجزائرية فرض "ابن حميدو" ضريبة على الولايات المتحدة الأمريكية. نعم، أميركا تدفع الضريبة للجزائر.. يا لعزّة الإسلام! ، فبعد أن نالت استقلالها عن بريطانيا عام 1783م، أرادت أن تبدأ بداية قوية وتستعرض قوتها مع أول ظهور لها، وبدأت البحرية الأمريكية تتجوّل في البحر المتوسط متجاهلةً سيطرةَ البحرية العثمانية بقيادة أسد الجزائر "ابن حميدو" الذي كان مسيطراً على مداخل البحر المتوسط، فشنَّ بطلنا هجوماً عنيفاً على الأسطول الأمريكي واستطاع أن يحقق انتصاراً عظيماً، وتم أسر 11 سفينة أمريكية.

ولحداثة استقلال الولايات المتحدة ولعدم توفرها على قوة بحرية رادعة، كانت عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، فاضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في 5 سبتمبر 1795م، تدفع بموجبها واشنطن اثنين وستين ألف دينار ذهبي للبحرية الإسلامية مقابل السماح لها بالعبور من البحر المتوسط. وتضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة العثمانية.

وذكر كتاب «تاريخ الدولة العثمانية» أن هذه الوثيقة من الوثائق النادرة والفريدة، وهي المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة أخرى غير الإنجليزية التي وقعت عليها الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها حتى اليوم، وفي الوقت نفسه تعد المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردّت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.

كانت أبرز المهام المكلف بها هذا القائد، إجبار الجزائريين على تقديم اعتذار للولايات المتحدة واسترجاع الأسرى الأميركيين وانهاء دفع الاتاوة المفروضة على السفن الأميركية في المتوسط، والأهم من ذلك القضاء على الرايس حميدو الذي أذلهم مراراً وحطّم كبرياءهم.

بعد تولي جيفرسون رئاسة الولايات المتحدة نقض المعاهدة ورفض دفع الضريبة، وأرسل بحريته للمرور من البحر المتوسط متحدياً بذلك البحرية الإسلامية، وهنا أمر الريس حميدو بحريته بالهجوم على السفن الأمريكية، وبالفعل تمكّن الأسطول الإسلامي من سحق الأسطول الأمريكي وأسر كل من فيه، واستطاع ابن حميدو أن يمرّغ أنف الولايات المتحدة في التراب للمرة الثانية على التوالي.

على إثر ذلك أرسلت الولايات المتحدة الأميركية قطعة بحرية إلى المتوسط لأجل الانتقام، وكانت هذه القطعة بقيادة كومودور دوكاتور، وكان من المهام المكلف بها هذا القائد إجبار الجزائريين على تقديم اعتذار للولايات المتحدة واسترجاع الأسرى الأميركيين وانهاء دفع الاتاوة المفروضة على السفن الأميركية في المتوسط، والأهم من ذلك القضاء على الرايس حميدو الذي أذلهم مراراً وحطّم كبرياءهم. ووصلت مع الأسطول الأمريكي قطع من البحرية البرتغالية وهي صاحبة ثأر أيضاً مع البحرية الإسلامية.

وبعد مسيرة عظيمة من الجهاد والبطولات البحرية التي سطّرها القائد المسلم العظيم محمد علي "الريس حميدو" استشهد سنة 1815م في المعركة التي اندلعت بين الطرفين، بعدما أصابته إحدى القذائف وقسمته إلى نصفين، وأمّ حاكم البلاد حينها الداي عمر باشا شخصيا صلاة الغائب التي أداها الجزائريون على روح بطلهم الرايس حميدو، وأعلن الحداد في كل أنحاء الجزائر لمدة ثلاثة أيام.

ابن حميدو بطلٌ عظيم ضرب أروع القصص وأجمل المواقف في خدمة أمّته ورفعة شأنها آنذاك، غير أنَّ سيرته للأسف لم تَنَلْ حظّها في الذيوع، أو أن انتشارها ظلَّ محصوراً في إطارٍ مكاني محدود. وفي الحقيقة؛ هناك الكثير من رجال هذه الأمة، استطاعوا أن يكونوا كالأوّلين تماماً في مختلف الميادين، لكنّهم بقوا مجهولين بالنسبة لكثير من المسلمين، وأقلّ واجب علينا اليوم؛ هو نبش كُتب التأريخ وقراءة سيرهم، ومن ثم تعريف مَن حولنا بهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.