شعار قسم مدونات

مجاعةُ.. شعب من غير طحين

blogs - المجاعة في اليمن
كيف يُعاني؟ الشعبُ الذي كان إذا غُرِبَ استوطن، وإذا أغتربَ عَمَّر، وإنْ هاجر تَاجَر، وكَسبَ لآخرته أضعاف ما يكسبُ لدنياه، وتركَ لدينهِ أكثر مما يترك لورثته.
أنا مِنْ البلد الذي هَجرته رائحة الخبز، واغتصب مِنْ فُقرائه حق حيازة الطحين. أنا السبئيُ الذي لم يَعُد أمامهُ مِنْ يثرِب أخرى يهاجر إليها، كلما انهار سدُ حاجتهِ. أنا فلاحُ البُنِ الذي يرتشفه العالم ليصفو ذِهنهُ، ويقرأ في وَحلهِ الراكد في قعرِ الفَناجين حَظهُ ولا يعلم أنْه الأخير، وكيف لا يكون الأخير وفَلّاحهُ شهيد، وجَانيهِ مُختطف، وتاجرهُ مُبعَد.

اليوم أكلت أسرةٌ يمنية آخر كِسرة خُبزٍ، لا تَملكها، لكنها استطاعت بعد جهدٍ كبير توفيرها. وغَداً لن تستطيع أنْ تُعيدَ فعل ذلك. وفي كل لحظةٍ تُضاف إلى خانة الجِياع أرقام مهولة، سئمت الانتظار في مُربعات التصنيف، التي رَسمتها المُنظمات والهيئات الأممية، عبر أثير تقريرها، ومصفوفات حساباتها. من يستطيع إخبارهم، أنه لم يَعُد هنالك أحدٌ تحت خط الفقر، بَعْدَ أن أصبح الجوع مساحة تُغطي جُغرافيا كاملة. ولم يَعُد بإمكاننا أن نُردد أغنيات الحصاد في حَضرة سُنبلاتٍ يابسة، وليس هُنالك مِنْ أُخرٍ خَضراء.

عندما أريد الحديث عن المجاعةِ، يجب أن أتطرق إلى عُنصرين مُهمين هما الاقتصاد والنَاس، وأفصل في العلاقة بينهما. فالنظام الاقتصادي الفعّال، وأعني بالفعّال هنا، أنه النظام الذي يمكن أن تؤدي عثراته، أو ركوده، إلى أزمة إنسانية كبيرة، خارجاً عن معايير ونظريات الاقتصاد، وبعيداً عما يقولهُ المتخصصون.

لقد ادخر اليمني البسيط غِنَى نفسه لعقودٍ، ولم ييتبادر إلى ذَهنهِ المشتت بين مُتطلبات المعيشة، أنْ يأتي يومٌ يُجبر فيه على الخروجِ للناس وهو يتكئ على جِدار لطالما أمِنهُ على عَوزه.

وعلى مدى عقود كاملة لم يكن المواطن اليمني ينتظر من الدولة بأشكالها، وحالاتها، أن توفر قوتَ يومه، أو حتى تُساعده في ذلك، ولم تكن نظرتها لها تزيد عن كونها مُجرد تاجر، يمارس كل الحيل للسَرقة وليس لمجرد الكسب، ومع ذلك يُقاسمها ويتعامل معها ويقيمها كل ما أوشكت على الانهيار.

ويمكن اعتبار الأسرة هي الوحدة الرئيسيّة التي يتركب مِنْهَا الاقتصاد، ترسمُ خُططها في الإنفاق، وتُعد برامجها في الإنتاج، من الأعمال الحرفية والمهن التي يمارسها أفراد الأسرة، وعندما يستوجب الأمر تحسين مستوى الدَخَل، تضطر إلى الدفع بأحد أفرادها للاغتراب خارج الوطن في أغلب الحالات. حتى الأسر التي يشغل بعض أفرادها وظائف عامة، إلا أنهم ينفقون ما يتقاضونه مقابل الخدمات الأساسية، من سكن وصحة وتعليم، وعادة ما يمارسون أعمال أخرى، في سبيل المحافظة على النظرة التي يحضون به من قبل مجتمعاتهم، وإن كانت تثقل كاهلهم ببعض النفقات الإضافية، ويمكن أن أبرهن على ذلك من سجلات الدَينِ التي تنتشر في كل مؤسسة، ومَتجر، حتى لدى الباعة المتجولين، والتي تعود لموظفي القطاع الحكومي، بضمان الاستمرارية في التعامل وأحياناً المعرفة الشخصية.

حتى دخلت البلاد في دوامة الانقلاب العسكري، وما تسبب به من حربٍ وفوضى. قضت في أشهرها الأولى على القطاع الخاص، وتسببت بركود شبه كلي، أجبر نسبة كبيرة من سكان المُدن على العودة إلى الريف، والاعتماد على الوسائل القديمة في تدبير حياتهم اليومية. الأمر الذي لم يتوقف عند ذلك، مع دخول الانقلاب في عامه الثالث، وزيادة حجم العمل العسكري للحكومة الشرعية والتحالف العربي وما رافق ذلك من إجراءات اقتصادية، أبرزها نقل البنك المركزي بعد إن استنفذ الانقلابيون احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، والعَمَل على حِرمانه من عائدات النفط والغاز.

بعد أن سقط مَارد الخراب، وهَوت فزاعة الإهارب، أيقن الجميع أن الجيل الذي يخسر كرامته اليوم لَمْ يترك لأجيال الغد ما تَكسبه في حلبةِ صراعها الأزلي مع رموز الاستبداد، وحاشية الطُّغَاة.

كل هذه الأمور من شأنها أن ترفع درجة الاستنفار الاقتصادي، بدءا بإيقاف صرف المرتبات لموظفي القطاعين المدني والعسكري لمدة تتجاوز الثمانية أشهر قابلة للزيادة، وتحميل الحكومة الشرعية مسؤولية ذلك. ليترك المواطن اليمني البسيط يواجه مصير الجوع، مع توقف الدورة المالية، واختفاء السيولة النقدية من يده.

لقد ادخر اليمني البسيط غِنَى نفسه لعقودٍ، ولم ييتبادر إلى ذَهنهِ المشتت بين مُتطلبات المعيشة، أنْ يأتي يومٌ يُجبر فيه على الخروجِ للناس وهو يتكئ على جِدار لطالما أمِنهُ على عَوزه، ورَكن إليه في مُوارةِ حاجته عن أعين المُقربين إليه، قبل الغُرباء. مؤكداً على أن الجميع يَملِكُون الوطن، لكن مَنْ يَملِكْهم الوطن فقط هُم البُسطاء، الذين منذُ أنْ اهتزت أركانُ منازلهم شاهدنا الوطن أنقاضاً، وفي اليوم الذي فَقدوا فيه أعمالهم أصبح الوطن فقيراً تأكله قِطعانُ كِلابه التي اعتادت أن تأكل خبزَ الجياع، وفي الليلةِ التي ناموا فيها خَوفاً لَمْ يستيقظ الوطن حتى اليوم، لَمْ تعد أقدامهم تُهرول نحو الأسواق، تأكد حينها أنهُ لَمْ يَعُد للوطن أقداماً يَقف عليها.

هناك مجاعة.. لن أذهب في الحديث عن الأسباب والمسببات أكثر مِنْ ذلك. ودعونا نُقسم رَماد المأساة، على شكل مسؤوليات، ولا نسمح لرياح الانحياز أن تَذره في أعيننا المُتأمله بحلٍ. فهناك مَنْ يريد إعادة الشعوب مِنْ طور ثورات الكرامة، إلى ثورات الخُبزِ وانتفاضة الطحين. في محاولة يائسة وربما أخيرة لجعل الجوع قريناً للكرامة، بعد أن سقط مَارد الخراب، وهَوت فزاعة الإهارب، أيقن الجميع أن الجيل الذي يخسر كرامته اليوم لَمْ يترك لأجيال الغد ما تَكسبه في حلبةِ صراعها الأزلي مع رموز الاستبداد، وحاشية الطُّغَاة. أم سيستمر واقع أن الدولة سُلطة رَخوة وما مِنْ مسؤولية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.