شعار قسم مدونات

لماذا يهاجمون ابن باديس؟ (2)

blogs ابن باديس

عندما نتناول بالدراسة أو القراءة شخصية الشيخ عبد الحميد ابن باديس؛ علينا أن نضبط أولا المجال التاريخي الذي نَشِطَ ضِمْنَهُ، لقد عاش بين أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وهي فترة هامة في تاريخ الأمة العربية الإسلامية، فترةٌ كان فيها المستعمِر آنذاك يُنهي اللَّمَسات الأخيرة من خطّة القَضاء على أرْكان هُويَّة الشَّعبِ الجزائري.

كان آخر أحداثها البارزة؛ المقاوَمة الجزائرية الأولى التي قادها الأمير عبد القادر قد أُنهِيت بعد حوالي عشرين سنة من الكفاح المستمِرّ والمحاولات المستميتة لجمع الجزائريين على كلمة سواء، وقد كان الأمير فذًّا، ورجلا اُختُصِرت فيه ملامح شخصيّتنا التاريخية، وما تلاها من مقاومات شعبية لا يُقضى على واحدة حتى تقوم أخرى في كل مكان وقد استمر ذلك حتى 1916م ..

كل هذه المقاومات سواء منها ما كان وطنيًّا جامعا وجزائريًّا خالِصا كمقاومة الأمير عبد القادر، أو كان منطلقا من جهة من جهات الوطن كمقاومات الحاج أحمد باي بقسنطينة أو الشيخ بوزيان بالزعاطشة، أو المقراني أو الحداد أو لا لا فاطمة نسومر أو بوعمامة أو الطوارق؛ كلها قضي عليها قضاء تاما، حتى كانت الاحتفالات تُعدُّ لمئوية قريبة على احتلال الجزائر، ما أدّى بالوعي النُّخبوي يَنصرِف إلى الاهتمام بأساليب أكثر فعالية، أساليب ثورية ثقافيا أو سياسيا، أساليب تُؤسِّس لما بعدها وتهتم أكثر بالفرد الجزائري وتوعيته..
 

حرَّرَ ابن باديس نفسَه من الانتساب للأفراد أو الأيديولوجيات؛ التي أفرزتها الظروف التاريخية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، لذلك لا يُمكنِنا أبدا أن نقول عنه أنه كان وهّابيا (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب) أو عبدويًّا (نسبة إلى محمد عبده)

حين نَدرُس ابن باديس علينا أن ننتبه إلى أن الاستعمار -في سبيل القضاء على المقاومات السابقة- لم يتبع فقط سياسة الأرض المحروقة، لكنه اتبع أيضا سياسة الدمج أو التجهيل، وهي سياسة أسست لمدارس عنصرية، لا تعترف بهويته التاريخية، لأنها تَعدُّها أرضَ "روبنسون كرِزُوِي" الذي تاهت به سفينته وهو الغربي المتحضِّر ليَقَعَ على جزيرة لا شعبَ فيها؛ نقلَ إليها أسبابَ الحضارة، كنَّا نحن سُكَّان تِلك الجزيرة..

الشعب الجزائري في أكثره لم يُلقِ بأبنائه إلى هذه المدارس رفضا لمدارس المحتلِّ، أو بسبب الفقر المنتشر آنذاك، فلم يتَمَكَّن من الدراسة إلا المستوطنون ممّن مُيِّزوا على أبناء الشعب صاحب الأرض، فلم يبق لأبنائه إلا اللوح والقلم، يحفظ شيئا من القرآن يكرِّرُه؛ يَتَبَرَّكُ بقراءته ولا يَفهم معناه..

الذي يدرس ابن باديس عليه أن يعرف؛ أنه حين درس في الزيتونة اِنفتح على بيئة مختلفة عن بلده، تصل فيها بعض الجرائد المشرقية، التي تُحدِّث عن نهضة عربيَّةٍ تزهو بنقاشات فكرية راقية، بينما لا يعرف أكثر أهل بلده إلا مبادئ اللغة العربية، وأنه في رحلته للحجاز والمشرق وقف على مدنٍ كالقاهرة والمدينة؛ تزهو بالعلماء المُدرِّسين فنونا علمية مُختلفة، وإن كانت هي أيضا تحتاج إلى إصلاح، لكنها خير من لا شيء، أو العدم الذي كانت ترْزَحُ فيه الجزائر..

الذي يكتب عن ابن باديس، عليه أن يَذكُر أنه حين بدأ وإخوانه كالعقبي والإبراهيمي التّدريس في الجزائر كان النَّاس لا يعرفون من العلم إلا اسمَه؛ ومن تاريخهم إلا حكايات شعبية وأشعارا يَتَداولُها الناس في الأسواق، أسواقٍ تغرق في الملاهي والرَّذيلة رَسَّخَ لها النِّظام الاستعماري..

ومع ذلك كانت لابن باديس مواقف فكرية-من تيارات برزت آنذاك-أنبَأت عن عقل حرٍّ، ورجل أبيٍّ، وفقيهٍ استعاد وظيفة العالم؛ التي ذهبت سَرَابا منذ عهد ابن تومرت، ولم يعد ذلك المُرابط الذي نذر نفسه للانضباط الخُلقي؛ والالتزام -أمام قادة الجيوش المُرابطيّة-لحماية الثّغور من الهجمات الخارجية على بلاد المسلمين، ولم يَعد يُنظر فيها لرجُل الدين أو العالم إلا شخصا مقدّسا يُتَبَرَّكُ به ويُخشى من سخطه.. 
 

رأى ابن باديس في التَّقليد، استعمارا فكريا ينبغي التخلص منه، وتحرير العقل المسلم من براثنه، وتحت هذا العنوان الكبير كانت معاركه العلمية، لم يخُض منها إلا تلك التي رأى أنها فعلا تَضرِب الشعب الجزائري في الصميم

حرَّرَ ابن باديس نفسَه من الانتساب للأفراد أو الأيديولوجيات؛ التي أفرزتها الظروف التاريخية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، لذلك لا يُمكنِنا أبدا أن نقول عنه أنه كان وهّابيا (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب) أو عبدويًّا (نسبة إلى محمد عبده)، وقد أعلن عن ذلك صراحة؛ لأنه تحرّر من كل ذلك؛ في نشأته العلمية على يد أهم من شكَّل شخصيَّته الفكريَّة؛ حمدان لونيسي القسنطيني المربي، ومحمد النخلي ومحمد الطاهر بن عاشور.. 

فلم يكن ابن باديس إذن وهابيا ولا سلفيًّا بالمعنى الذي تشكل لدينا في تسعينات القرن العشرين، ولكنه كان إصلاحيا تحرُّرِيا، هو سلفيّ بالمعنى الذي يعيد للأمة مصادرها في الاجتهاد والنظر إلى القرآن والسنة في ضوء مذاهب الأمة في الاستدلال، وبمدارسها الفقهية المختلفة دون التنكُّر للزَّخَمِ الذي أَفْرَزَتْهُ اجتهادات السادة المالكية في المغرب الإسلامي؛ وهو ما يظهر في اعتدِاده بشخصية ابن العربي المالكي، ولذلك لم يُدخل تلامذته ولا الرأي العام الجزائري -ممّن أصبح وفيا لاقتناء جرائده أو جرائد الجمعية المنتقد أو الشهاب أو البصائر-في نقاشات جزئية.. وخلافات شكلية لا نهاية لها تَقْذِفُ بالأمة في فراغ.. وكان دوما يضع كل نقاش في إطاره الذي يليق به…

رأى ابن باديس في التَّقليد، استعمارا فكريا ينبغي التخلص منه، وتحرير العقل المسلم من براثنه، وتحت هذا العنوان الكبير كانت معاركه العلمية، لم يخُض منها إلا تلك التي رأى أنها فعلا تَضرِب الشعب الجزائري في الصميم، نافح لأجل تعليم المرأة، ووقف في وجه كل من يمنعها عن مساهمتها في بناء المجتمع؛ تذرُّعا بفتوى أو رأي، وناضل لأجل تحريرها من الوأد الذي مورِس في حقِّها قرونا باسم الدين.. لقد كان أول من عمل على تدريسها وابتعاثها إلى خارج القطر الجزائري وهو أمرٌ قد يستغرِبه كثير منّا اليوم.. ومع ذلك لم يتهاون في الدفاع عن تميّز المجتمع المسلم عن غيره من الفئات آنذاك..
 

إن المُنصِف للتّاريخ يقرّ بأنه شخصيَّةٌ إصلاحية؛ أعادتنا إلى الخط الثقافي العريق والمجيد؛ خطِّ الحضارة العربية الإسلامية، ذلك الخط الذي فقدناه إذْ لم يَلْقَ شعبٌ ما لقيناه من سياسة الثَّقَافَة الإسلامية المحروقةِ

ولذا كان إصلاح التعليم، والتأسيس لإنسان جديد ينخرِط في الإنجاز الحضاري؛ ولا ينسى قاعدته الثقافية؛ لأنها أساس انطلاقته الحقيقية، ولكن هذا الانطلاق لم يكن مُمكنا مادام النّظام الاستعماري جاثما على رقبته، وقد مرّ على الشعب الجزائري حوالي القرن من الاستعمار لم يحفظ لنا التاريخ فيها سبعة أسماء كان لها إسهام علمي عالمي، وإن وجدت فإنها تنسب لفرنسا لا الجزائر، إلّا تلك التي هاجرت للمشرق..

الذي يكتب عن ابن باديس عليه، أن يَذْكُرَ الفارق الذي أحدثه في أبناء الشعب الذين درَّسهم؛ وكيف أنه أحرَجَ الأنظمة التَّعليمية الاستعمارية أو التقليدية، حين كانت مُخرَجَاتُ مدارِسه، طَلَبةً أنقياء أصفياء، يُتقنون العربيَّة ويُجيدونها بطلاقة، ويتقنون الفرنسية حتى حار في تعليمهم المستعمِر، يعرفون من تاريخهم وآدابهم؛ ما يمنحهم تلك الطاقة النفسية التي دفعتهم إلى معركة التحرير الحديثة..

إن المُنصِف للتّاريخ يقرّ بأنه شخصيَّةٌ إصلاحية؛ أعادتنا إلى الخط الثقافي العريق والمجيد؛ خطِّ الحضارة العربية الإسلامية، ذلك الخط الذي فقدناه إذْ لم يَلْقَ شعبٌ ما لقيناه من سياسة الثَّقَافَة الإسلامية المحروقةِ؛ حتى قيَّض الله لنا ابن باديس إماما أخرجَنَا منَ الرَّماد لترتفِعَ هاماتنا إلى السَّماء اعتزازا وافتخارا وإباء..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.