شعار قسم مدونات

قتلت أخي

BLOGS- ليبيا
لا يصدمك العنوان من هوله، ولا يُحزنك الفكر الذي أبحر في خيالك، ولا ترجوا الشفاعة لي فقد قتلت أخي، هناك على بعد عدة مجازر وقعت ليس أخرها سارين "خان شيخون"، كانت الفجيعة التي تكررت في عامين بنفس التاريخ كأنها إحياء ذكرى محببة، لم أنتظر أمراً لكي أنفذه بل بادرت بنفسي على وقع آمال قائدي وتصديقاً لهواجس لطالما كانت محلّ شكٍّ لدي.

أصابني الغثيان كثيراً وأنا أتابع بحرقة جامحة ردود الأفعال على اقتتال (الإخوة) في الغوطة الشرقية، وبعيداً عن واقع الحصار والجوع الذي يفتك بنحو مئات الألاف من المدنيين، وواقع التغيير الديموغرافي الذي يلوح بالأفق، والخسارة التي يمكن أنّ تشُكل المنعطف الأخطر إذا ما عادت هذه البقعة المتاخمة للعاصمة إلى حضن النظام.

إن إشكالية النظم الفصائلية تزداد تعقيداً كلما تقدم الزمن أكثر، وعجزها التام عن تقديم الحلول الناجعة لتطورات المشهد يزيد من سلبيات الموقف، ومعه تزداد شراسة الطغيان.

كلّ هذا صدقوني أقلّ مرارةً من واقع التحليل والاستنباط الذي أفرزته أقلام جهابذة "الفيس بوك" و"التوتير"، ونمقته كلمات الحائرين بمسار ثورتهم، وكانت شواهد الشرعيين حاضرةً كعادتها في استجلاب النصوص وتذكيراً بأحداثٍ مرت سابقاً، ومع هذا القيء المذموم، لم أبالي كثيراً، لعجزي التام عن تفسير هذه الظاهرة التي تتكرر وتعيد ولادة ذاتها بين الفينة والأخرى.

والأصعب هو تدني مستوى الأخلاق أو تلاشيها في التعامل مع الضد والأنداد، وكيف يكون الأمر إذا ما صار مع الأشقاء، يؤرقني دائماً حديث الكبار عن أخلاق أمتنا ومآثر راحليها والخصال المحمودة تعوم في فضاء سجاياهم، فتاريخ الأندلس والقسطنطينية وبلاد السند شاهدة تروي دماثة أخلاق الفاتحين، فما بالنا اليوم تسقط وتتهاوى دون آسفٍ عليها.

ليس يعنيني في أحداث اليوم البحث في خفايا الصراع ودوافع النزاع، أكانت حظوظ نفسٍ أو أوامر العرابين، أو فتنة ترتع في عقول المفسدين، أو ساسة يحركون الشارع بما يشتهي الداعمين، بل حجم العهر الذي رافق الحدث مع الدماء التي زُهقت كفيلاً باستجداء الموت الذي يأبى أنّ يأتي إلا على يد من يظاهرنا ويجاورنا.

إن إشكالية النظم الفصائلية تزداد تعقيداً كلما تقدم الزمن أكثر، وعجزها التام عن تقديم الحلول الناجعة لتطورات المشهد يزيد من سلبيات الموقف، ومعه تزداد شراسة الطغيان التي ما تلبث أو تكون نتائجه دماء وتهجير، وهذا ينقلنا بالضرورة إلى البحث في المآلات والنتائج التي بدو على طابعها العام كارثة محدقة، تتجاوز حدود الغوطة الشرقية ببعدها الجغرافي، وتمتد لتغير واضح في شكل الخارطة واستعصاء الوضع قبل النهاية المحتمة.

هذه الصورة السوداوية ليست نسيخ خيالات وأوهام، كل ما نخشاه أن يكون المستقبل مصدقاً لما نقول، وليس ارتهاناً لماض زرعناه ونجني ثماره الآن، بل هي الممارسات الخاطئة التي طُبقت على جذور عميقة ممتدة إلى أبعد من الظرفية، لتستقر حتماً في باطلٍ بُني على سذاجة التفكير، نعم إنّ الفصائلية أعطت يوماً حركية واسعة في الثورة، واستطاعت تجاوز بعض المشاريع الهادمة، من خلال شدّ بعضها وجذب الأخر.

وعندما عجز العدو عن استحكام مطلبه، كان الخيار الأفضل هو الضرب من الداخل، وربما كانت أحلامه مقتصرة على مشاغبات هنا وهناك، لتسدي له فصائلنا الهدايا والأعطيات بلا توقف، وفوق ما كان يتصور أن يرى البنادق انحرفت مسارها، ولسان حاله يقول "اللهم سدد رمي الطرفين وثبت أقدامهم"، بل ويزد تهكمه أن يعرض مساعدات لهم، ليصير الأمر أنّ أصبحت الفصائلية داء ينهش الجسد الواحد ويقوض أي مبادرة للإنقاذ.

عندما عجز العدو عن استحكام مطلبه، كان الخيار الأفضل هو الضرب من الداخل، وربما كانت أحلامه مقتصرة على مشاغبات هنا وهناك، لتسدي له فصائلنا الهدايا والأعطيات بلا توقف.

والطامة الكبرى تكمن في حجم الخسارة المرحلية مع تبلور المشاريع الخارجية في عموم الساحة، لنصل إلى يقينٍ أن مشكلتنا النفسية لا علاج لها، وضياع الأخلاق شكلت خلل في الثقة المبنية داخل أصغر الدوائر الاجتماعية، ولست أبالغ حين أقول من بينها الأسرة الواحدة، فكم من قضية شهدناها كان طرفا الصراع فيها من أسرة واحدة، وربما كانا القاتل والمقتول، فالتحشيد والتجييش لم يعد بحاجة إلى فتوى عابرة أو خطبة عصماء أو نخوة جامحة، كل ما تحتاجه أن تسقط الأخلاق وتنتظر مرادك يحثو السير نحو أهدافك.

لا أعتقد أنّ المبادرات والمحاكم المطروحة قادرة على إيقاف نزيف الغوطة، من دون إعادة إحياء مكارم الأخلاق قبل كل شيء، ثم التفكير جدياً بنواة لوحدة فصلٍ بين المختلفين وإن لم تستطع فإلى سوء المنقلب غير مأسوفٍ عليهم، أمّا فيما يتعلق بما يهمنا أكثر وهو سلامة المدنيين الذي رضوا الحصار والجوع على أن يكونوا في خندق الطغاة، وأرضٍ ارتوت كثيراً بدماء الشرفاء الأوائل وجرت على سطحها بطولاتٍ تذكرنا بماضي الأمجاد العتيد، هنا فقط نقول أنّ القضية غير محصورة بأسماء أو مشاريع، إن الإنجاز الأكثر طلباً الآن هو اقناع المندفع أنّ الجنة لن تكون موطنه إذا ما قتل أخاه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.