شعار قسم مدونات

المادية الرمزية في الدين

blogs - الفن والدين
يتجذر الدين في العقلية البشرية المشتركة منذ أول ظهور إنساني، لكن تظل فكرة الدين بمفهومها الشاسع غامضة، والارتباط الوثيق العقلي بهذه الظاهرة الإنسانية يطرح أكثر من تساؤل، يضرب في عمق التاريخ وجدليته.

فالدين دائما ما كان تعبيرا خالصا عن الرغبة الإنسانية في إسقاط الوجود على مداركها، أنا هنا لا اقصد أن الدين نتاج بشري بحت، لكني أعالج مسألة التعلق البشري بالدين، والممارسات الروحانية التي لا تغيب عن ظهر الوجود، مهما عرف العالم من إطلالات أخرى على مدى ما بعد البعد الديني في الحياة.

الدين لا يمكنه أن يحضر بتغييب المادة أو الروح، إنهما شقين متكاملين ومتجادلين داخل رقعة صراع المؤثر والمتأثر، جدلية رهينة باستمرارية الدين ومقاومته لتطور الفكر البشري وتغيراته.

يظل الدين مكونا وجوديا صرفا، و لبنة أساسية لبناء اكتمال حضاري قادر على الصمود و الصراع لإثبات الوجود، إذ أن جملة هذه الخدمات التي يقدمها الدين للهوية ترتبط ارتباطا وثيقا بحضور مكونين أساسيين و هما: الحضور البديهي للجانب الروحي والحضور الفعلي للجانب المادي.

فمن المعلوم بين الأوساط الحضارية الدينية القائمة أن الشق الروحي دائما ما كان المصدر الأساس لاكتمال الصورة الروحية، و الارتباط الطقوسي بين العبد و المعبود، بل و أنها ذهبت أبعد من ذلك إلى أنها كانت الرسالة الإسلامية الوحيدة المعالجة طيلة الوحي المكي و المختصرة في مفهوم العقيدة، بل و أنها استعملت غالبا بصورة مغلوطة عمدا، لتعبئة الجماهير أو استعبادهم من لدن المستبدين الاستغلاليين للسلطة الدينية فيما يشهد عنه التاريخ.

فكل هذا التأثير العميق للجانب الروحي لا ينفي بالبتة الوجه المادي للدين، بل يدفعنا أكثر إلى التساؤل حول الطبيعة التي تتبلور فيها جدلية المادي و الروحي داخل الدين نفسه، و ما الذي يفسر حضور الكثافة الرمزية الدينية من طقوس و معابد إلى أصغر أدوات العبادة بجانب الوعي الروحي المتأصل في الكيان الديني؟.

فعليا، الدين لا يمكنه أن يحضر بتغييب المادة أو الروح، إنهما شقين متكاملين ومتجادلين داخل رقعة صراع المؤثر والمتأثر، جدلية رهينة باستمرارية الدين ومقاومته لتطور الفكر البشري وتغيراته.

إن العلاقة البشرية بالجانب المادي للدين ظلت أقل أهمية حينما يكون الدين في قمة حيويته الحركية، وليس ركاما تاريخيا من الآثار، لكن بصفة عامة هذا التغييب اللاواعي للدور المادي في تعزيز التواصل الميتافيزيقي لا يمكنه إلا أن يبرهن على أن لا انفصام يحكم وجهي العملة الدينية، فالرمزية المادية الدينية كانت ولا زالت علة من علل معلول المعتقد، وعلى مر التاريخ البشري أخذت البديرة الأساس في رسم لوحة ملحمية ومستقلة لكل دين على حدة.

فالهندوسية على سبيل المثال، باختلاف مشاربهم و مذاهبهم، لم يكن يجرؤ أي تيار عقدي على فرض ذاته داخل الساحة الدينية إلا عن طريق اتخاذ إله يميزه، إله ثانوي غير الإله "شيفا"، أي الإله المشترك، فيقام له تمثال و يختار له كتاب مستقل يحمل بعض الأحكام المستقلة، بالإضافة إلى فرض طقوسية خاصة في تقديم القرابين و تزيين المعابد، و نرى في هذا السياق الانفصالات المذهبية التي تحكم الدين الاسلامي أو المسيحي أو اليهودي.

إن رمزية مكة في ذهنية المسلم و الفاتيكان في ذهنية المسيحي ليست ذات معنى جامد، بل إنها محرك فعلي متصل بالممارسة الشعائرية، و غير مقتصر عن البنايات أو الاشخاص من الخارج دون أرواحهم، بل إنها تهيج النسق الإيماني، و تكمل التوازن و اللذة التي يلامسها المتعبد في صلاته.

فالإسلام على سبيل المثال يفرض فيه كل توجه عقدي زيا يميزه، أو حلقة شارب و لحية تميز رجاله، فهذا التنوع يحكمه الوسط الذي ظهر فيه، لكنه يتخذ فيما بعد شكلا من أشكال الهوية العقدية و تطعيم للنسق الروحي، و نضرب بذلك مثال الشيعة الذين يرتدون الثوب الأسود و العمامة السوداء، و السنة الذين غالبا ما يميلون إلى ارتداء البياض، ثم الدروز الذين يتميزون بطول شواربهم و قبعاتهم البيضاء، و كذلك فيما يخص الارثوذوكس و الكاثوليك الذين يبالغون في تزيين الكنائس و تعبئتها بالتماثيل، و اهتمامهم بلباس الباباوات المطرز، مع اختلاف يحكم إعفاء اللحية لدى الارثوذوكس و حلقها عند الكاثوليك، و هذا كله بخلاف البروتستانت، الذين يحرمون التماثيل و لا يهتمون بزي الباباوات، فهذا فيما يخص الاختلاف في الدين نفسه.

أما بالنسبة للديانات المختلفة، فيرى بشكل واضح التنوع المعماري من نقوش و زخرفات الذي يحكم هاته الديانات، و كيف تتكون الاستقلالية بوجود رمز يميز كل ديانة من هلال و صليب و نجمة داوود و وردة اللوتس و غير ذلك من الرموز، فهذه الاختلافات الرمزية لا يمكن إلا أن تنطق بكونها صورة من صور الثقافة الروحانية التي تطبع كل ديانة، و أنها من تجليات التصور الروحي.

إن رمزية مكة في ذهنية المسلم و الفاتيكان في ذهنية المسيحي ليست ذات معنى جامد، بل إنها محرك فعلي متصل بالممارسة الشعائرية، و غير مقتصر عن البنايات أو الاشخاص من الخارج دون أرواحهم، بل إنها تهيج النسق الإيماني، و تكمل التوازن و اللذة التي يلامسها المتعبد في صلاته.

و الله سبحانه و تعالى يقول في محكم كتابه : "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ".

 فالله سبحانه وتعالى لم يجمل أماكن العبادة في كلمة واحدة "المعابد"، لكنه فصل فيها وهذا ما يدل على أن الطبيعة المعمارية تؤثر تأثيرا كبيرا في خلق وعي متدين ومرتبط بأصول الدين لدى الفرد والجماعة.. إذن فالرمزية المادية هي مواكبة حية ونشيطة للتصور الروحي وشكل من أشكال الاعتقاد الذي يتبناه المؤمن في طائفته ولبناء هويته العقدية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.