شعار قسم مدونات

أطلال ناجي حيث الليلُ رحيقٌ والفجرُ حريق

blogs - إبراهيم ناجي
التعريف الأشهر للإبداع هو أن تأتي بجديد مبتكر لم يسبقْك إليه أحد، وأن تطرق في سبيل ذلك ما لم يطْرُقْهُ غيرك. لكن العبقري إبراهيم ناجي في درة إبداعه (الأطلال) لم يلتزم تمامًا بهذا التعريف. لقد انتقى إبراهيم ناجي أكثر أغراض الشعر شيوعًا لدى العرب وهو الغزل، واختار أكثر فروعه ذيوعًا وهو الفراق وشجونه، والذي يكاد لا يوجد شاعر أو شُويْعر إلا وكتب فيه! وحافظ إجمالًا على بناء الشعر العمودي التقليدي. ورغم ذلك، أتى بقصيدة فريدة أرسى بنيانها المحكم على عجائب من الأساليب والصور والمعاني لم يأتِ بمثلها الأوائل. فأعاد بها اكتشاف شعر الغزل والشجن، وأعاد الاعتبار للشعر العمودي، ولإبداع المتأخرين الذين كثيرًا ما راعهم ادعاء أن السابقين أتوْا بكل فنون الإبداع وأغلقوا الباب وراءهم.
فكان جزاءً وفاقًا أن كوفئَت الأطلال بأن توّجها صوت أم كلثوم الساحر درة للأغنية العربية الخالدة، وما زالت لنصف قرنٍ أو يزيد يحفظها عاشقون جدد عن ظهر قلب!

الشجن.. الطاقة التي لا تفني وتستحدث من العدم والوجود:
في أيامنا العجاف هذه، التي استحال فيها ربيع أعمارنا صيفًا محرقًا، يزداد الشجن شجونًا. وللفراق المنازل العليا في مراتب الشجن. ولذا، فقصيدة فراقية بديعة كالأطلال تتجدد حيويتها في حاضرنا هذا، فتشعر كأن قريحة ناجي لم تتفتَّق عنها إلا بالأمس، أو صباح اليوم! فما منا أحدٌ إلا وقد فارَقَهُ وطنٌ أو حبيبٌ أو طموحٌ أو شغفٌ أو يقين أو كل ما سبق. ولكل منا الحق أن يتوحّد مع الأطلال، ويرثي من خلالها نفسه وزمانه وأطياف ما فارقه.

أطياف الحلم الضائع:
كل مقطع في الأطلال يستحق الوقوف أمامه كثيرًا، لكن هنا سأناجي نفسي وأخلّائي بمقطع أراه يعبر تمامًا عن أيام انهيار الحُلم، وصدمة الربيع الشهيد.

برز نور الحقيقة نذيرًا للشؤم، وأطل الفجر في سخرية حقودة شامتة، داعسًا بقدميْه ليل الأحلام الجميل. محرقًأ حتى الرماد ما بقي من أمل اللقاء. وهكذا فإن الثمن الكبير لليقظة أزهد بعضنا فيها.

وانتبهنا بعدما زال الرحيقْ *** وأفقْنا ليتَ أنا لا نفيقْ!

لا شك أن المحن تُعلِّم الكثيرْ. لكن أصبح لسان حال القطاع الأكبر من شباب الربيع العربي بعدما رأوْا حلمهم وقد أحالتْه الثورة المضادة كابوسًا من دماءٍ وآلامٍ وضياع وفوضى، أنه ليت المحنة لم تقعْ، وليتنا لم نتعلّم! لقد كنا سادرين في أحلامنا البريئة، نعيد تشكيل العالم بريشة الأمل، ونقوم بفك وتركيب الأوطان الكئيبة على مقاس أمانينا النبيلة. فأيقظتْنا الوقائع المفزعة على غلبة الماضي وقهر المستقبل. وظهر أنه كان ينقصنا الكثير من الخبرات والأفكار والإبداع، بينما كان لدى خصومنا فائض من الأموال والإجرام والتعطش لدمائنا.

يقْظةً طاحتْ بأحلام الكرى *** وتولّى الليلُ والليلُ صديقْ

وهنا خرج ناجي على قاعدة شهيرة لدى عموم الشعراء. فقد شاع بينهم أن الليل عدو لدود. ففيه تقسو الوحدة، وتتجسد الوحشة، فتفيض الأفكار البائسة والطاقات السلبية في أعماق الشاعر، وتعبر عن نفسها في أشعار الشجن والفراق واللوعة والألم، والتي دائمًا ما يكون مسرحها ساعات الليل الطويل، ويتخللها الشكوى للنجوم التي غالبًا ما تكون الصديق الأوحد للشاعر في ظلمة الليل البهيم. ولذا شاع في الصور السلبية استخدام الليل والظلام. وشاع في الصور الإيجابية استخدام الفجر، والنور، والشمس والنهار، فهؤلاء من يصرعون الليل الموحش، وينتزعون الشاعر من أسره.

في هذه الأبيات، يشير ناجي بأصابع الاتهام إلى الفجر وباقي عناصر النهار. فقد انقضَّت عليه على حين غرة، فأطاحت بالليل الذي كان يضمه بين جنباته، ويغرقه حتى الثمالة في أحلام اللقاء الصادق العذب، ويحيطه بأطياف خيال الراحلين.

فإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ *** وإذا الفجرُ مطلٌّ كالحريقْ!

سنكبحُ الذكريات المؤرقة التي تبعث على اليأس وتقهرنا بالحزن. بينما سنحافظ على جذوةٍ من الغضب المقدس والشجن، يكون شعلة (الريمونتادا) التي سنقوم بها عاجلًا أو آجلا.

برز نور الحقيقة نذيرًا للشؤم، وأطل الفجر في سخرية حقودة شامتة، داعسًا بقدميْه ليل الأحلام الجميل. محرقًأ حتى الرماد ما بقي من أمل اللقاء. وهكذا فإن الثمن الكبير لليقظة أزهد بعضنا فيها. خاصة وأنها يقظة جاءتنا بعد فوات الأوان، وبعد أن تربَّع اليأس على عرش القلوب والأرواح. ونلحظ هنا فارق المشرقيْن والمغربيْن بين وصف النور المدنَّس في أطلال ناجي، ووصف النور المقدس في أحلام أبي القاسم الشابي، رفيقه في مدرسة الشعر الساحر، أبوللو:

إلى النورِ، فالنُّورُ عذبٌ جميلْ *** إلى النورِ فالنُّورُ ظلُّ الإلهْ!

وهكذا جاء دور الحكمة الصعبة باهظة الثمن، والتي لمْ نصل إليها إلا بعد مخاضٍ عسير من الألم والدم، رغم أنها كانت ماثلةً قريبًا منا طول الوقت، تثبتها حقائق التاريخ، وطبيعة الدنيا الغشوم.

فإذا الدنيا كما نعرفُها *** وإذا الأحبابُ كلٌّ في طريقْ!

وهكذا لم يعد لنا من الآمال العراض، إلا ذاكرة الآلام التي نجترُّها. وعليه، فإن النصيحة الموجزة الثمينة التي يوردها ناجي في الأطلال، بكبح جماح سيل الذكريات الذي ينكأ الجراح كل ساعة، قد تحمل بعض معاني الصواب.

كلَّما التامَ جُرحٌ   ***   جدَّ بالتذكارِ جُرحُ
فتعلَّمْ كيفَ تنسى ***   وتعلَّم كيفَ تمحو

لكن يأبى علينا اسم الله العدل، ودماء الشهداء النبيلة، أن نعمل بهذه النصيحة كاملة. سنكبحُ الذكريات المؤرقة التي تبعث على اليأس وتقهرنا بالحزن. بينما سنحافظ على جذوةٍ من الغضب المقدس والشجن، يكون شعلة (الريمونتادا) التي سنقوم بها عاجلًا أو آجلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.