شعار قسم مدونات

ما زال في عمر الباطل بقية

blogs - Ali Gomaa

عندما وجد الفكر العلماني نفسه عاجزا أمام الفكر الإسلامي، وخاصة في حالة الصدام المباشر، والذي يخرج منه كل مرة مهزوماً هزيمة أمر من سابقتها، ولا يناله إلا التقهقر والضمور، ناهيك عن اتساع دائرة المد الإسلامي، وإظهار المجتمعات الإسلامية تمسكها بالدين في مواجهة الحداثة المحشوة بالعلمنة والتفريط.

وعندما وجد هذا الفكر أنه قد خسر الرهان الذي راهن عليه في لحظة ما، وكان قد راهن بأن المجتمعات الإسلامية ستسلك الطريق الذي سلكه الغرب المسيحي نحو التطور والحداثة، وأنها ستسير في علاقتها مع الدين بذات المنحى التي سارت عليها المجتمعات الغربية، وأن إقصاء الدين وتنحيته هو القدر المحتوم، والواقع لا محالة في المجتمعات الإسلامية كما سبق وقوعه في المجتمع الغربي، إلا أنه اصطدم بواقع صلب، وأتت رياح الحق بما لا تشتهيه سفن الباطل، فزاد تمسك المجتمعات الإسلامية بدينها، وتحصنت به فحماها وأواها.

غير أن هذا لا يعني أن المجتمعات الإسلامية على ما يرام، إذ أن هناك فئة قد انسلخت من هذه المجتمعات سعيا خلف أهواءها، وإرضاء لغرائزها وعبادةً لها، وأصبحت تدين بهذا الفكر، وتعمل جاهدة لنشر هذا الفكر وفرضه على المجتمع المسلم، وقد ذاع صيتها فظهرت على السطح، وبدأت تأخذ صفة النخبة في كل فئات هذا المجتمع.

أي وسطية كان النبي عليها غير الصدع بالحق، وإنكار المنكر، وإبطال الباطل ومحاربته ..و…، وغيره مما أمره الله به حتى أكمل الله دينه ورضي به لعباده المؤمنين؟

ورغم أن هذه الفئة في عددها لم ترضي غرور ذلك الفكر ولا منابعه التي تتبناه، إلا أنه قد وجد فيها أرضا خصبة لنثر بذور نبتته الخبيثة، وقاعدة ينطلق منها لمعركته الجديدة، فاتخذ منها رسلا تبشر بالخير القادم على يديه، واتخذها نواة مشروع إسلامي جديد بمصطلحات هي إسلاميةً في الشكل، خاوية من أي مضمون يربطها بالإسلام، وما ذاك إلا توجه جديد في هذه الحرب، وهجمة من نوع خاص، بعد نفاذ أدواته، واقتناعه بعدم جدوى أسلحته في أي مواجهة مباشرة مع المد الإسلامي، فتوجه لضرب المصطلحات الإسلامية وتفريغها من مضمونها الصحيح، تمهيدا لحشوها بما يوافق هواه.

وقد لا تجد غرابة في اختيار هذا الفكر وجنوده لمصطلحات قد تميز بها الإسلام عن غيره من الأديان، فعندما ينتهي ما تميز به الشيء عن غيره أصبح شيئاً عادياً ليس فيه ما يجذب إليه، فكان من بين هذه المصطلحات وأبرزها ظهورا على الساحة، وأكثرها جريا على الألسنة، سائعةً للعالم والجاهل هي: (وسطية الإسلام وسماحته – وأنه دين يسر وليس دين عسر) وما هذا إلا حقٌ يراد به الباطل.

 إن هذه العبارات هي الرد المتوقع دائما على كل من صدع بحق وأنكر منكرا أو أمر بمعروف، وهي الحجة التي يشهرونها في كل معركة جدلية لهم، يهونون بها الكبائر والصغائر من المنكرات، وإن أنت أنكرت عليهم حجتهم فتكون بذلك تنفي هذه الصفات عن الإسلام! وما تلبث إلا أن تجد نفسك قد انتقلت بغير إرادتك، من معركة لم تحسم بعد إلى أخرى جديدة، فهم أذكياء، وطرقهم ملتوية، وقد تعلموا كيفية إطالة عمر المعركة دون حسمها، وعدم حسم المعركة يعني أنه مازال في عُمر الباطل بقية، وأنه مازال أمامه فرصة لإظهار نفسه والمراوغة من جديد.

فالوسطية المزمع إرساءها في عصرنا هذا، هي التسامح في كل شيء، إن كان هذا التسامح يجوز شرعاً أو لا يجوز، بل والسكوت عن الباطل، وعدم إنكار المنكر، واقتصار النصح على تدوينه في الورق كأي فكر آخر، وتهميش دور علماء الدين، بحيث لا يكون لهم أثر واضح في المجتمع الذي يفترض أنه مجتمع مسلم، وغيره من الأمور التي يُعد الإتيان بها تعديا على الحريات الشخصية للفرد، كما يتوهمون.

وأما وسطية ديننا اصطلاحاً فهي الخير الذي بين شرين، وهى كلمة تدل على العدل والفضل والخيرية والنصف والتوسط بين الطرفين. يقول ابن فارس: "الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه". ويقول ابن منظور: "وسط الشيء وأوسطه: أعدله.
وجاءت الوسطية في الشرع بمعنى العدالة والخيرية، والتوسط بين الإفراط والتفريط، كما في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا »، إذاً فالوسطية: هي العدل والخير والإنصاف.

وما اجتمعت هذه الصفات وأكثر منها إلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد أصحابه من بعده ومن سار على خطاهم، وما عرفت سماحة في الأرض كما كان على عهد النبي، والشواهد القرآنية التي اشارت إلى عدل النبي ورحمته وسماحته حتى مع غير المسلمين كثيرة، وكذلك في السنة. ورغم ذلك سأنقل شهادات من الجانب الآخر، من باب شهادة الخصوم:

فهذا الفيلسوف الفرنسي ادوار مونته (1817 -1894 م) يقول في آخر كتابه (العرب): عرف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم. 

من بين هذه المصطلحات وأبرزها ظهورا على الساحة، وأكثرها جريا على الألسنة، سائعةً للعالم والجاهل هي: (وسطية الإسلام وسماحته – وأنه دين يسر وليس دين عسر) وما هذا إلا حقٌ يراد به الباطل.

ويقول ليف تولستوي «1828 ـ 1910» الأديب العالمي الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية ): يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.

وهذا قولهم، وقد قال غيرهم ما هو أكثر من ذلك مدحاً في أخلاق النبي وحكمته وعدله ورحمته ووسطية عقيدته عليه الصلاة والسلام، وسيكون هناك من أعداء الأمة من يمدح عدالة النبي ورحمته ووسطية شريعته إلى يوم القيامة، لأنه لا دين ولا شريعة على الأرض كانت أو ستكون كدين محمد وشريعته عدلاً ورحمة. إذاً فأي وسطية نتنعق غير وسطية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له القاصي والداني بالعدل والرحمة.

وأي وسطية كان النبي عليها غير الصدع بالحق، وإنكار المنكر، وإبطال الباطل ومحاربته ..و…، وغيره مما أمره الله به حتى أكمل الله دينه ورضي به لعباده. قال الله تعالى في سورة آل عمران( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ…..) 110 وعلى هذه الأسس قامت دولة لم يُعرف لها مثيل في القوة والعدل والإنصاف، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

وأما الوسطية والسماحة التي يريدونها، ولا يكون الإسلام إلا إذا تماشى معها، فهي لا شيء إلا التفريط الذي يهدم المجتمع ويفكك ترابطه، ويهدم بنيته التي ما قويت إلا حين تمسكت بشريعة السماء العادلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.