شعار قسم مدونات

تحرشات لغوية

blogs - طفل يتعلم

"إنّ حلم الفصحى ليس حلم العودة وإنما حلم الانطلاق نحو غدٍ يمسك فيه العرب بزمام أمرهم أما التحيز إلى العامية فهذا هو طريق الهزيمة والسوق الشرق أوسطية" منذ أكثر من عقد من الزمان وأنا أعلق عبارة عبد الوهاب المسيري هذه قلادةً تزينُ عنقي أجدها عزاءً كلما أصبتُ بدوار اللغة الذي يرشقني به مقالٌ أو يصفعني به موقع أو يصعقني به شخصٌ مثقف مع مراعاةِ وضعِ خطٍ أو أكثر تحت تلك الكلمة أصلًا.

اختلفت مقاييس الإتقان والتطور والحضارة إذ صار الشخص الذي يتقن اللغة الأجنبية بغض النظر عن مستواه المتهلهل في العربية شخص ذكي صاحب مكانة مرموقة حتى ولو كان يغرقُ في عددٍ أكثر من عشرة إذا ما أراد إسنادهُ إلى معدود، والبعضُ هنا في المساحة الافتراضية يروج نفسه على أنه كاتب، فإذا ما ساقتك عيناك وفضولك لقراءة ما يكتب احتجت لحبة بنادول وكأس ميرمية علّك تبلعُ كل تلك الأخطاء اللغوية والنحوية دون أن تجرح ذائقتك.

ليست الصورة المرئية والمقروءة للعربية وحدها ما يحملك على الانزعاج، فالصورة المسموعة للغة العربية كذلك والتي أشعرُ ان عظامي تتطقطقُ عند سماعِ خطأ أصابها كما أسمعُ صوتَ طحنِ رمادِ المتنبي وأبي تمام والفراهيدي وسيبويه ومن حذا حذوهم في قبورهم. أذكر مرةً أنني بعد إجراء عملية لأسناني كنت أعاني من النزف والألم الشديد الذي فشلت المسكنات في إخماده فلجأت لأحدى حلقات الكرتون الفصحى المصرية لأستمع إليه وعقلي منشغلُ بتصحيح كل جمله أو كلمة فتناسيتُ ألمي ودخلتُ بعد ساعةٍ من الانشغال بالتصحيح الذهني في نومٍ عميق.
 

هل يعقل أن الفصحى التي اتسعت لكل المرادفات والمتطابقات الدقيقة والتي تجد لكلمة واحدة مئات المعاني التي تحمل معاني مقاربة ومتشابهة ضاقت على أهليها ليستعيروا من العامية تارةً ومن اللغات الأخرى تارةً أخرى ليسدوا نقصًا لديهم؟!

آلةُ الإعلام ضربت بقواعد اللغة والذائقة السمعية للعربي صاحب اللسان المبين عرض الحائط وفشلت أغلب المحطات والإذاعات بالحفاظ عليك مستمعا لأكثر من عشر دقائق دون أن تُصاب أذنكَ بخدوشٍ ورضوضِ وأحيانا بكسورٍ وخلوعٍ وأنت تستمع. وإذا أردنا تفسير الظاهرة من الجانب السيكولوجي الإعلامي فإننا نُرجعها إلى رغبة وسائل الإعلام على اختلافها لأن تكون قريبةً من المشاهد متصورةً أن نحت الكلمات الملائمة من الفصحى ستبعدها عن جمهورها ولربما تحول هدف تلك الوسائل من عالمية الرسالة لمناطقيتها. فالمصريّ يضخ الموادَ بلهجته والسوري والمغاربي كذلك وصار كلٌ منهم يقيم في لهجته أكثر من لغته الفصحى بل وحتى يتنكر لها ويخطئ بها على الهواء وأمام جمهوره لا آسفًا ولا كاسفًا.
 

فهل يعقل أن الفصحى التي اتسعت لكل المرادفات والمتطابقات الدقيقة والتي تجد لكلمة واحدة مئات المعاني التي تحمل معاني مقاربة ومتشابهة ضاقت على أهليها ليستعيروا من العامية تارةً ومن اللغات الأخرى تارةً أخرى ليسدوا نقصًا لديهم؟! قبل عقود قليلة كان الشخص الذي يخطئ في حصة اللغة العربية في المدرسة يتعرض للسخرية من زملائه ويشار إليه بالبنان في لحارة على أنه شخص غير نابه وكأنه أسقط حصون الأندلس فيما انعكسَ الحالُ اليوم.
 

كان الشخص المفوّه القوي لغويا شخص يحظى بإعجاب الفتيات وإذا ما راسل فتاتهُ بعد خطبتها ووقعت عينها على خطأ مكتوب أزدرتهُ وكأن الشخص الذي لا يؤتمن على أسماء اللغة وأفعالها وحروفها لا يؤتمنُ على بنات العالم. وعن ازدراء التعامل مع العربية والاستخفاف بها على أنها أقل قدراً من سواها نجد كثيرًا من الأمهات يعمدن في تربية أبنائهن إلى ثنائية اللغة وأحيانًا فك طلاسم العالم باللغة الإنجليزية.
 

هذه المنظومة التربوية تؤهله بعلمٍ أو بغباء لخلع بردة اللغة العربية الموشاة عن كاهليه عند أول فرصة والتركيز على لغة أجنبية واحدة على الأقل رغم أن اللغتين لا تتعارضان وكأن لغتنا صارت موضة قديمة آيله للسقوط، فإذا كان وفقًا لآخر الاحصائيات العربية التي طالعتها خمسون بالمئة من سكان الوطن العربي لا يتقنون اللغة العربية بشكل جيد فإن هذه الممارسات الجاهلة والتجهيلية من كل الأطراف اليوم ستخفض وتقضي على النصف الذي خرج سليمًا من معركة التحرش اللفظي والكتابي بلغة الضاد.

يشكو لي أغلب أصدقائي الأجانب ممن حطت رحالهم في الشرق طلبًا للغة الضاد انزعاجهم من تحدثهم مع العرب في تلك البلدان إذ أنهم ينحرحون أمام ذهول الناس لتحدثهم بالفصحى، وكثيرًا ما يعانون عدم فهم الناس لهم واتهامهم لهم بقولهم أنت لا يمكنك فهم ما نقول رغم أنهم يتكلمون بشكل واضح. وعلق لي أحد الإخوة مؤخرًا أضطررت لتعلم بعض كلمات اللهجات الدارجة لأدفع عن نفسي الحرج أمام العرب حين مخاطبتهم ولحملهم على فهم ما أقول دون أن يعتبروني خرجت لهم من التاريخ الغابر ودون أن يضطر عقلي للتوقف بسبب التنقل السريع والمتكرر بين الدارجة والفصحى.
 

الأمة التي تتعامل مع لغتها كما تتعاملُ مع الشيخ الهرم هي أمةٌ تحتاج لمراجعة نفسها وأمةٌ لا تدرك أن لغتها العربية لا شيخوخة لها، هي أمة عند أول نزال ستكفرُ بها وسترفع راية الاستسلام وتعيش في لغة أخرى.

إتقانك للغة العربية سماعًا ومحادثة وكتابةً لا يحطُ من قدرك ولا يعيدك لحقبة ما قبل الكامبري ولا يعني أنّك متخلفٌ أو رجعي ولا يتعارضُ مع إتقانك للغتين أو أكثر من اللغات الأجنبية، رغم أن اللغة العربية من أقدم اللغات السامية وأنها اللغة الرابعة عالميًا من حيث عدد المتحدثين بها وأنها تحتلُ المرتبة الأولى على قائمة اللغات الأكثر استخدامًا على الفيسبوك بنسبة تصل إلى تسع وثلاثين بالمئة إلا أن اليوم العالمي للغة العربية لدى الأمم المتحدة والذي يوافق الثامن عشر من كانون الثاني قد أُقر عام 2013 فقط أي أنه يعد واحدًا من أحدث الأيام العالمية.

أظنُ أننا اليوم بحاجة لشرطة مرورية للغة العربية ينبهون على ما يقع من الاخطاء الكتابية والسماعية بشكل متكرر تأخذ على عاتقها الترافع عن حقوق تلك اللغةِ المغلوبةِ على أمرها، وبالمجان يرتدي أفرادها بزّة المحامي اللغوي يمسكون المجرور معيدين إياهُ لموقعه ويعقدون هدنةَ صلحٍ بين الأعداد ومعدوداتها، ولا ينصبون من نصبِ المنصوبِ ما استطاعوا وما لم يمسسهم نَصَبٌ او لغوبٌ أو نسيان.

الأمة التي تتعامل مع لغتها كما تتعاملُ مع الشيخ الهرم هي أمةٌ تحتاج لمراجعة نفسها وأمةٌ لا تدرك أن لغتها العربية لا شيخوخة لها، هي أمة عند أول نزال ستكفرُ بها وسترفع راية الاستسلام وتعيش في لغة أخرى عند أقرب فرصة خاصةُ وأن عزة اللغة وقوتها هو مؤشر على مكانة الشعب والأمه، فكما يقول الرافعي ما ذلت لغةُ شعبٍ إلا ذلَ ولا انحطّت إلا كان أمرهُ في ذهابٍ وإدبار..

فهل ما نشاهده اليوم من نكوصٍ للغةِ على لسان أبنائها وفقر معاجمهم الشخصية في التعبير عن ذواتهم بالعربية في حين إقبال غير العرب على دراستها والسفرِ للشرقِ لأجلها يعيد إلى أذهاننا مشهد انشغال العرب في القرون الأولى من الإسلام بالسياسة وإقبال غير العرب من المستشرقين أمثال الياباني تشوهيكو إيزوتسو والألمانية ماري شميل وسواهم على العلوم المختلفة وعلى تصنيف وتطوير اللغة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.