شعار قسم مدونات

إرادة الاعتقاد

blogs التأمل
إن موقف "وليام جيمس" من الظاهرة الدينية عامة، ومن الاعتقاد والشعور الديني خاصة، لهو موقف مشاكس، مستفز، ومغري في الآن نفسه، وهو يستحق التأمل وتقليب النظر في حيثياته وخلفياته، وذلك لاعتبارين اثنين على الأقل، أولهما: أنه يتضمن تحولا جديدا في فهم وتحليل ظاهرة الاعتقاد، إذ عمل على مزج البعد السيكولوجي بخلفية فلسفية براجماتية، وثانيهما؛ وبغض النظر عن مضامينه المعرفية فإنه؛ يعطي المشروعية لمحاولة فهم الشعور الديني من خارج إطار الدين نفسه، أي من الفلسفة خاصة.

وما يلزمنا نحن كمسلمين هنا أن نعمل على إعادة التصالح والتقارب والتفاعل بين الفلسفة والدين، أي بين الحقيقتين، بعدما أتى عليهما حين من الدهر توترت العلاقة بينهما وانعكس ذلك سلبا على واقعنا العلمي. 
كبداية؛ إن الشيء الأهم الذي وجب الانتباه إليه هو أن جيمس اضطر إلى الإقرار بأهمية الاعتقاد عند الإنسان كـ "اختيار" إرادي حر، أو رغبة كباق الرغبات التي تميل إليها الذات بحرية وبلا إكراه، هذا مع ضرورة صرف النظر عن طبيعة هذا الاعتقاد مادام بإمكانه أن يحقق نتائج عملية تنعكس إيجابا على نفسية الإنسان بحيث يوفر له نوعا من التوازن النفسي بما هو تجربة سمو وتعالي عن تناقضات التي يطفح بها عالم الحس، وإلا أصبح مجرد عبث لا قيمة له.
 
إن قلة قلية من تحاول تأسيس تجاربها الدينية على مستند عقلي بحجج وبراهين، وذلك أن الدين لمّا يستحيل إلى موروث، يتناقل عبر الأجيال بطريقة تلقائية.

صحيح أن براجماتية جيمس لا ترفض ولا تعادي تلبية رغبة الاعتقاد بالنسبة للذات، لكنها في المقابل تفتح الباب أمام "تعدد" وتناسل الأديان بتعدد وتكاثر الذوات المؤمنة والمعتقدة، وهنا عوض الإقرار والاعتراف بسلطة الظاهرة الدينية وبكونها إحدى الأبعاد البنيوية المحددة للذات البشرية، فإن اختزلت البعد الديني إلى مجرد إرضاء لشعور وفضول عاطفي شخصي بلا إلزام أو إكراه! هنا نجدها فقد ضربت الأديان السماوية عرض الحائط.

لكننا عند التأمل نجد أن الإنسان مقهور على الاعتقاد في أشياء وأمور كثيرة، خاصة المنظومات الدينية على اختلافها وتنوعها، وهذا هو موقف التصورات المِليّة التوحيدية الثلاث، خاصة الدين الإسلامي الذي يقر بأن الإنسان "مفطور" ومجبول على الاعتقاد، والواقع يؤكد أن الإنسان ميال إلى الاعتقاد "بلا إرادة" ولا حتى مقاومة في الخضوع لسلطته والاستسلام لها، ذلك أن الاعتقاد أو قل "التدين" يشكل قلقا وجوديا ذاتيا للنفس حتى وإن كانت "غير معتقدة" أو متدينة، والنتيجة إذا؛ هي أن أصل الاعتقاد لا دخل للإرادة فيه، وإنما تتدخل إرادة الإنسان في "الالتزام" بحيثيات المُعتقَد ومقوماته.

ولما كانت قيمة أية فكرة تكمن في نتائجها العملية الملموسة؛ فإن عجز العقل عن الدفاع المنطقي بالحجج والبراهين العقلية على معتقداته، لا يبرر رفضها من أساسها ولا ينقص من قيمتها عند جيمس، وهذا في اعتقادي دليل على كون الاعتقاد "فوق الإرادة" لأكثرية الناس خلافا لرأي جيمس.

إن قلة قلية من تحاول تأسيس تجاربها الدينية على مستند عقلي بحجج وبراهين، وذلك أن الدين لمّا يستحيل إلى موروث يتناقل عبر الأجيال بطريقة تلقائية؛ فعمل الإرادة يرتفع هنا ويصبح من غير الجائز الحديث عن دين فردي أو شخصي على مذهب جيمس، بل الأصح الحديث عن دين المجتمع أو الدين الشامل الذي تنخرط فيه جماعة، تتحد في منظومة قيم وتعاليم وطقوس معينة، وهذه الملاحظة تتعدى الأديان إلى الأفكار والمذاهب والمعتقدات والإشاعات…

إن دفع تهمة الاعتقاد الإرادي كما أرداها جيمس، تلك التهمة التي تُحول الدين والاعتقاد في الأخير إلى "لاشيء" وذلك عندما تضعنا أمام أديان فردية لا عد لها ولا حصر؛ لا ينفي عن الأديان أنها تتحنط وتتحول بالممارسة والتوارث إلى "عادة" وذلك عندما يستقيل العقل من وظيفته، ويصاب بالكسل والخمول أمام حقائقها، فيغدو دوره هو التسليم والإيمان، ويصبح الاعتقاد في حد ذاته هو البداية والنهاية ! وتنتهي وظيفة الدين الثورية والاجتماعية التي لم ينتبه لها جيمس إلى مجرد أطلال وأشكال فارغة.

ولما كانت قيمة أية فكرة تكمن في نتائجها العملية الملموسة؛ فإن عجز العقل عن الدفاع المنطقي بالحجج والبراهين العقلية على معتقداته، لا يبرر رفضها من أساسها ولا ينقص منها.

من المؤكد أن عدم القدرة على الدفاع البرهاني عن المعتقدات، قضية لا تشمل فقط "العامة" من الناس، بل إنها ظاهرة تكاد تجمع تحتها معظم "الخاصة" من الذين لهم حظ من العلم والمعرفة، وذلك راجع أولا إلى طبيعة الأديان التي يشكل التسليم جوهرها، ثم لأن بنيتها العقدية والطقوسية لا تقبل التعليل لجزئيات التفصيلية اللهم إلا تعليلات عامة ومجملة قد لا تشفي فضول العقل.

ولعل هذا ما يجعلنا ندرك أهمية أَوّل أمر نزل في الخطاب القرآني وهو "اقرأ" فالدين المؤسس على الجهل وتغيب فيه روح العلم والتعلم يتكلّسُ ويتحجّر مع مرور الزمن وتنْخُره الأوهام والأفكار الدخيلة والخرافات لأنه فقد مناعته وحصانته، وهذا الأمر الرباني الأول يجعل من الإسلام دين العقل والعلم والبحث لا دين الخضوع والركون والاستسلام، ولا شك أن الخضوع واتباع السائد كان من بين أسباب ركود البحوث الدينية على اختلافها وعدم تجددها، وجل الذين جددوا وأبدعوا داخل النسق الديني هم عقول ثائرة قطعت مع المألوف وانحازت لجانب توظيف طاقة العقل الجبارة، ابتداء من الشّافعي إلى الغزّالي وابن تيمية والشّاطبي وابن خلدون وأضرابهم من العظماء.

عندما كان جيمس يجادل في كون البرهنة العقلية على الاعتقاد غير ضرورية، فإنه كان يقارن بين مجال العلم ومجال الاعتقاد، فالعلم خاصة الطبيعي منه لا بد فيه من براهين وحجج لدعم حقائقه وإلا لم يكن علما خاصة وأنه يهتم بما هو خارجي عن الذات الإنسانية أما الاعتقاد؛ فبما هو أمر باطني داخلي مؤسس على الشعور والإرادة.

لكن الذي يجب التأكيد عليه هنا فيما يخص علاقة الإنسان بالعلم والاعتقاد، هو أن لغة العلم تختلف عن لغة الدين، فالأصل في اللغة العلمية أن تكون مستقلة تماما عن سيكولوجيا الإنسان، أي أنها محايدة؛ وحتى وإن كان معطيات التاريخ قديما وحديثا طافحة بأمثلة لأحداث كشفت على أن المجال العلمي لم يسلم من تدخل النوازع الذاتية والأنانية والأهواء والتحيزات في توجيه أو تحوير حقائقه و توظيفها في أهداف مغرضة ولا إنسانية، لكن هذا لن يغير من حقيقة كون لغة العلم وحقائقه منفصلة عن الذات الإنسانية.

الذي يجب التأكيد عليه هنا فيما يخص علاقة الإنسان بالعلم والاعتقاد، هو أن لغة العلم تختلف عن لغة الدين، فالأصل في اللغة العلمية أن تكون مستقلة تماما عن سيكولوجيا الإنسان.

وعلى النقيض تماما، باستطاعتنا أن ندرك أن الدين يخاطب "الإنسان" في أبعاده المختلفة، يخاطب مخاوفه ويتفاعل مع شكوكه ويُقدّر آماله وتطلعاته، إن الدين باختصار يخاطب الظاهرة الإنسانية في أبعادها المركبة والمتعددة، وفي المحصلة فإن البعد الميتافيزيقي والشعوري للاعتقاد في نظر جيمس يجعل الإنسان يشعر بالعجز إن هو أراد البرهنة والتدليل عليه.

وفي الأخير؛ لم يكن القصد ابتداء من عرض هذه النّتف من أفكار وليام جيمس هو توضيح نظرته المعقدة والمتضاربة أحيانا لمسألة الاعتقاد وموقفه من الظاهرة الدينية عامة؛ وإنما هذا الكلام هو دعوى إلى "تجاوز" حالة المُيوعة والضحالة والتبسيط الذي أضحى يسيطر على الأفكار السائدة في ما يخص مناقشات الأمور العقدية، تلك المناقشات التي لم يعد لها أي أساس إيديولوجي محترم تستند إليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.