شعار قسم مدونات

لماذا يا قطر؟

مدونات - قطر

كثير ما يعاني الإنسان عندما يوازن بين قناعاته وبين إرضاء الآخرين، ولكن رمّانة الميزان الرئيسية التي يعتمد عليها العاقل هي "المبادئ"، حيث أن القناعات قابلة للتغيير وفق للأحوال والظروف والمعطيات، بينما المبادئ لا تتجزأ ولا يمكن أن تتغير وفقًا للظروف، والعاقل الراشد هو من يحافظ على احترامه لنفسه ولا يخسر احترامه لها في سبيل إرضاء الآخرين، ويضع مبادئه أمام ناظريه في كل الأوقات.
 

ما سبق لا ينطبق فقط على الأفراد، ولكنه يشمل أيضاً الجماعات والأحزاب والأنظمة والدول، وفي التاريخ شواهد عديدة رأينا من خلالها جماعات ودولاً وأحزاب تغيّر من مواقفها أو من نظرتها للأمور، وتتخذ وفقًا لذلك قرارات قد تعتبر في بعض الأحيان مصيرية، ولكنها ترتكز على ضرورة عدم الحياد عن المبادئ والأسس الحضارية والأخلاقية والإنسانية التي تعتمد عليها منظومتها الفكرية والوجودية، وواجهت وفقًا لذلك الرفض والعداء والانتقاد من الآخرين، الذين قد لا يشاركونها نفس المبادئ، أو لا يرون في الأصل ضرورة لوجود المبادئ في العمل السياسي والدولي، بل تكون فقط لغة المصالح والمعطيات الحالية والظرفية هي المعيار لديهم.

مواقف سياسية عديدة وقضايا دولية كثيرة عانت فيها المؤسسة السياسية القطرية بسبب مبادئها، وكثيراً ما دفعت ثمن ذلك من انتقادات وإساءات من أفراد وأحزاب وحكومات، حتى وصل الأمر إلى القطيعة في بعض الأحيان.

تعتبر قطر من أكثر الدول معاناةً في هذا الشأن، خصوصًا وأن الحالة القطرية لها خصوصيتها التي تميزها عن غيرها، وهي أن الدولة القطرية لها مواقف واضحة وصريحة في أغلب الأوقات، ولو أمعنت في البحث والتحرّي فلن تجد سياسياً أو مسؤولاً قطرياً يعطيك موقف رسمي مرتبك أو قابل لعدة تفسيرات، ومن الصعب أن تجد تناقض بين المواقف القطرية المعلنة وبين ما تقوم به قطر على أرض الواقع، كل ذلك وغيره يجعل من السهل معرفة الموقف القطري تجاه أي قضية بكل بساطة، فيسهل على الآخرين اتخاذ الموقف تجاه مواقف قطر من رضى أو سخط.
 

المراوغة والتناقض سمة سياسية ودبلوماسية تتصف بها الكثير من حكومات ودول العالم ، لكنها غير موجودة في القاموس السياسي القطري، وهذا ما يجلب لقطر الكثير من المنزعجين، خصوصًا بأن "لغة السياسة" تقوم على المصالح في أغلبها، وقليلاً ما يكون هناك متسع للمبادئ، هذه اللغة لا يجيدها الشعب القطري ولا القيادة القطرية، وإن وجد القارئ "شبهة مبالغة" في ما مضى من كلامي، فليطرد هذه الشبهة بدليل "الربيع العربي" على سبيل المثال، الذي كانت به قطر من أقل الدول معاناة في اتخاذ ردّة الفعل تجاهه إن لم تكن أقلّها معاناةَ بالمطلق، فالموقف كان واضحًا لا لبس فيه "قطر في صف الشعوب العربية وحقها في نيل حريتها" موقف لم تعاني فيه قطر من احتمالية الوقوع بشرك التناقض أو من ضرورة تعديل وتشكيل الموقف بحسب الشعب الثائر أو الرئيس الذي يواجه الثورة، الشعب هو المرجعية وهو الأساس والحرية والديمقراطية هي المبتغى دائمًا بكل بساطة.

مواقف سياسية عديدة وقضايا دولية كثيرة عانت فيها المؤسسة السياسية القطرية بسبب مبادئها، وكثيراً ما دفعت ثمن ذلك من انتقادات وإساءات من أفراد وأحزاب وحكومات، حتى وصل الأمر إلى القطيعة في بعض الأحيان، وهذا أمر طبيعي، لأن المواقف السياسية القطرية لا تتشكل وفقاً للمصالح بل وفقًا للمبادئ، ومعيار المصالح يعطي مجالاً فسيحاً للأخذ والرد والانتقال من مربع إلى آخر، بينما المبادئ فهي مسطرة لا يحيد عنها صاحبها، وإن أودت به إلى طريق يتميّز بقلّة السالكين، ويتضح أن قطر شعباً وقيادة لا توحشه هذه الطريق.
 

بانتصاف شهر أيلول من العام السابق، تفاجئ العالم بمحاولة انقلاب مجموعة من الجيش التركي على النظام المنتخبة ديمقراطياً، فرح كثيرون من خصوم النظام التركي وتشمّتوا به وتناسوا الشعب التركي، وأفضلهم حالاً وأكثرهم لباقةً من أخذ موقف الحياد في لحظة يعتبر فيها الحياد "عار"، حتى أوروبا التي كانت تعتبر رمز الديمقراطية والعمل المؤسسي، وضعت نفسها في أقبح حلّة عندما تباطأت في إدانة المحاولة الانقلابية وانتظرت النتائج حتى تتخذ وفقها الموقف.

رصيد قطر راسخ في قلب المظلوم الذي تؤازره، في وجدان اللاجئ الذي تدعمه قطر، في مذكرّات الثائر الذي أيدته قطر، وفي صرخات الأحرار في أي بقعة من بقاع الأرض الذين شدّت من أزرهم قطر.

وعندما كانت المؤشرات الأولية تشير إلى نجاح المحاولة الانقلابية، وبدأت الإشاعات توحي بانتهاء عصر النظام التركي ورئيسه المنتخب أردوغان، ووصل الحال ببعض الدول إلى مخاطبة الانقلابين بصفتهم أمرًا واقعًا، خرجت علينا الخارجية القطرية، تعلن الرفض لما جرى، وتدعم الشرعية التي اختارها الشعب التركي، كأول المواقف المعلنة والرافضة للمحاولة الانقلابية، ضاربةً عرض الحائط أي اعتبارات لمصالح قد تتضرر أو خصومات قد تحدث مع الانقلابين في حال نجاح حركتهم، هي المبادئ القطرية الراسخة والداعمة للعمل الشرعي وإرادة الشعوب، بوصلة تسير وفقها الخارجية القطرية، فلم تضللها الطريق يوماً، فكسبت بعد ذلك حب الشعب التركي، واحترام القيادة التركية.

الشواهد كثيرة على الثمن الكبير الذي تدفعه قطر يومياً بسبب اتساق مواقفها مع مبادئها، بدءا بالقضية الفلسطينية مروراً بالحركات والرموز الإسلامية ووصولاً للربيع العربي وما تبعه من خريف، هذا الثمن لا ينقص من شأن قطر إلا في التغريدات وشاشات الإعلام الموجّه، ولكنه رصيد راسخ في قلب المظلوم الذي تؤازره قطر، في وجدان اللاجئ الذي تدعمه قطر، في مذكرّات الثائر الذي أيدته قطر، وفي صرخات الأحرار في أي بقعة من بقاع الأرض الذين شدّت من أزرهم قطر، وهنا ترتسم إجابة العنوان: لماذا يا قطر! ببساطة لأنها دولة ذات سيادة وذات مبادئ.

"مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ !" (إنجيل مرقس 36:8).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.