شعار قسم مدونات

لماذا لستُ ملحدا؟

blogs الكون

أعتقد أن التفسير المادي البحت لنشوء وتطور الكون هو نتيجة فهم محدود للعالم المادي وقوانين الطبيعة، لكنه بنفس الوقت ربما يكون الخيار الأكثر جاذبية لكثير من الناس كونه يخلي المسؤولية نحو أي التزام عقائدي إلى جانب كونه نخبويا يرقى بمعتنقه إلى مصاف "المفكرين المستقلين" الذين ينأون بأنفسهم عن "جموع العامة" من الناس (أو هكذا قد يُظَن)، إضافة لما سبق فإنه يمثل نوعا من الاستسلام الذهني والقبول بما هو متاح وظاهر على السطح. 

تاريخيا تمحور الفكر الإنساني حول محورين أساسين ومتوازيين، محور أفلاطوني يرى في الواقع المادي أحد إسقاطات أو تجسدات عالم المثال الذي يسبقه، فهو بالتالي معنيّ بجوهر الأمور وما وراء المظهر المادي، ومحور أرسطي يكتفي بتقييم الانسجام بين المقدمات أو البديهيات المتفق عليها والنتائج التي تبنى عليها أو ما يسمى بالمنطق الأرسطي، وهو غير معني بجوهر هذه المقدمات أو حتى محتواها، وقد تطور الجزء الأكبر من علوم الطبيعة حتى يومنا هذا حول هذا المحور الأرسطي باعتباره يقدم مرجعية لا مجال للاختلاف في نتائج تطبيقها، ويعتبر بالتالي أساسا رئيسيا للفهم المادي للوجود. 

بطبيعة الحال أنا لست في موقع يسمح لي بالتشكيك في قدرات علماء كبار مثل ستيفن هوكينغ وريتشارد دوكينز وغيرهما ممن نحو المنحى الأرسطي ووجدوا في التفسير المادي الإطار الوحيد الذي لا يتطلب إقحام أفكار غيبية لا يمكن إثباتها أو نقضها علميا، ولكني بنفس الوقت أرى أنه مبني على فهم أحادي الأبعاد لقوانين الطبيعة، فهم لا يتجاوز نص القانون الطبيعي إلى مدلوله.
 

في حالة حدوث أي تغير مهما كان طفيفا في أي من القوانين أو الثوابت الكونية فلن يكون هناك مجال لنشوء كون فيه من الثبات ما يسمح بتطور المجرات والأجرام السماوية  وعليه فإن احتمال أن يكون هذا التطور عشوائيا غير وارد

ولتوضيح ما سبق، فلنتأمل في قانون الجاذبية لنيوتن والذي يحدد مقدار الجاذبية بين كتلتين بحاصل ضرب الكتلتين بثابت الجاذبية مقسوما على مربع المسافة بينهما، والسؤال الذي يجب طرحه هنا: لماذا هذا القانون على ما هو عليه، لماذا مربع المسافة بين الجسمين وليس مكعبها مثلا، ولِمَ كان ثابت الجاذبية على ما هو عليه، وماذا لو لم يكن هذا وذاك، فأي تغيير يمكن أن يحصل في هذا الكون؟ الإجابة على الشق الأخير من السؤال هي ببساطة أنه لن يكون هنالك كون، فقوانين الكون وثوابته مضبوطة بدقة هائلة لضمان وجوده وبقائه، وأي تغيير مهما كان بسيطا فيها سيؤدي إلى انهياره أو بالأحرى عدم نشأته، ويمكن استنباط إجابة الشق الأول من السؤال من إجابة الشق الثاني، وهذا الطرح يمكن تعميمه ليشمل كافة القوانين والثوابت الكونية المعروفة.

من منظور الفيزياء المادية البحتة فإن الكون نشأ من العدم آخذين بعين الاعتبار العوامل التالية:
– أن الفراغ المطلق يحتوي قدرا معينا من الطاقة تُسمّى طاقة الفراغ .
– أن حالة الطاقة الدنيا للفراغ هي وضع غير مستقر كما جاء في طروحات الفيزيائي الياباني يوتشيرو ناموبو في سياق ما يسمى بالانهيار التلقائي للتجانس.
– أن جسيمات (افتراضية) متعاكسة الشحنة تتخلق من الفراغ المطلق تستهلك بعضها عند التحامها أو ما يسمى "تأثير كاسيمير" – نسبة إلى العام الهولندي الذي أثببتها عمليا – ويمكن في حالة نادرة أن تتباعد عن بعضها قبل الالتحام فتتحول إلى جزيئات حقيقية.
– أنه وبعيد أحد الانبعاثات السابقة حدث تمدد تلقائي متسارع أدى إلى نشوء الكون .

وبناء على ما سبق فإن نشوء الكون هو نتيجة طبيعية وإن كانت عشوائية غير مخطط لها (ومن باب المصادفة توفرت له أيضا شروط ابتدائية محددة يؤدي أي اختلاف مهما كان بسيطا فيها إلى تبعثر هذا الكون).

قد يبدو هذا النموذج العلمي متجانسا وقائما على أسس علمية بحيث يمكن التسليم به وخصوصا لعدم اعتماده على أي بعد ميتافيزيقي لا يمكن الاتفاق عليه أو إثباته علميا أو بعبارة أخرى هو خارج قائمة البديهيات الأرسطية التي يعتمد البناء العقلي عليها. ولكن الجزءالأكبر من علماء الفيزياء والرياضيات ومنهم نيوتن وماكسويل وأينشتين وغودل وغيرهم إمّا لا يقبلون هذا الطرح أو يعتبرونه تجليا أو تجسيدا لمعطيات معنوية (أفلاطونية) أكثر عمقا وليس حدثا مستقلا قائما بذاته وذلك للأسباب التالية:

– في حالة حدوث أي تغير مهما كان طفيفا في أي من القوانين أو الثوابت الكونية أو الظروف الابتدائية فلن يكون هناك مجال لنشوء كون فيه من الثبات ما يسمح بتطور المجرات والأجرام السماوية وبالتالي الحياة على الأرض، وعليه فإن احتمال أن يكون هذا التطور عشوائيا غير وارد.

– لقد أظهرت فيزياء الكم أن الواقع الملاحظ لا يتعدى كونه موجة احتمالية لا يتجسد في موقع وشكل محدد إلا إذا تم رصده، وبالتالي لا يمكن فصل بنية الواقع عن الإدراك (المعنوي) له، وفي نفس هذا السياق تتحدى ظواهر معينة مثل الماحي الكمي والترابط اللحظي الأسس التي قامت عليها العلوم المادية التقليدية.

– يقول أصحاب التفسير المادي أن أساس التطور مبني على قوانين الفيزياء، ولكن من أين جاءت هذه القوانين ثم أين كانت في فراغ "الخواء المطلق" الذي سبق تشكل الكون بناء عليها، فالعدم المفترض ليس مقصورا على المادة الكونية ولكنه بالتأكيد يشمل كل شيء آخر، ثم لماذا هذه القوانين هي على ما هي عليه وكأنها صيغت لتقود هذا التطور!

– لماذا تتبع الطبيعة قوانين رياضية بسيطة ومتجانسة وبعبارة أخرى ما السر في قدرة الرياضيات ("المخترعة" من قبل الإنسان) على التعبير الدقيق عن الظواهر الطبيعية المستقلة تماما عن وعيه، وهو ما عبر عنه أينشتين بقوله: "كيف يُعقَل أن تكون الرياضيات والتي هي نتاج الفكر البشري المجرد معْتَمَدة من قِبَل الطبيعة "، فعلى سبيل المثال فإن متتالية فيبوناتشي والنسبة الذهبية (وهي مفاهيم رياضية بحتة) يمكن ملاحظتها متجلية في جوانب كثيرة من الطبيعة المادية كأعداد بتلات الزهور وقشرة القواقع وحتى تفاصيل جسم الإنسان.
 

يقودني عقلي وما ورد من أدلة في هذا المقال إلى الاستنتاج المعاكس وهو أن عالم الأمثال والمعاني كان هو الأصل الذي انبثق عنه الوجود المادي، لهذا أنا لست ملحدا

لقد دعت هذه المعطيات وغيرها كثيرا من العلماء والمفكرين إلى القول بأن الواقع المادي ليس إلا إسقاطا لكينونات مثالية تشمل المعادلات الرياضية والقوانين الطبيعية الموجودة في عالم المثال الأفلاطوني، تتجسد في عالمنا المادي على شكل موجودات مادية، ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن الفيلسوف الإغريقي فيثاغورس كان أول من أسس لهذا الطرح حين أكتشف العلاقة بين النوتات الموسيقية والمعادلات الرياضية وأكد أن مثل هذه العلاقة الرياضية-الموسيقية هي ما يحكم بنية الكون وحركته، وقد تبنى أفلاطون هذه الفكرة وعممها لاحقا، ومن الغريب أن معادلات فيزياء الكم التي تصف الموجة الاحتمالية للواقع المادي مبنية على ذات النموذج الرياضي.

ولكن ما علاقة هذا الطرح بمفهوم الإيمان والإلحاد! 
أظن أنه يمكن طرح هذا السؤال بالطريقة التالية: أيهما سبق الآخر عالم المثال الأفلاطوني أم عالم المادة الأرسطي، يجيب الفيلسوف الوجودي (المادي) جان بول سارتر: أن الإنسان هو الكينونة الوحيدة التي حددت غاية وجودها بعد أن وجدت، فالوجود المادي سبق عالم المثال أو المعاني الذي ابتكره خيال الإنسان، أنا شخصيا يقودني عقلي وما ورد من أدلة في هذا المقال إلى الاستنتاج المعاكس وهو أن عالم الأمثال والمعاني كان هو الأصل الذي انبثق عنه الوجود المادي، لهذا أنا لست ملحدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.