شعار قسم مدونات

لا تعد يا صلاح الدين

مدونات - صلاح الدين

تتعالى أصوات المظلومين، وتتزلزل في الأرجاء صيحات المنكوبين بعد كل أزمة وأبان كل انتفاضة وخاصة بعد أن طال حصار القدس، وبعد أن تجبر الظالمون في حلب، وبعد أن عاث الظالمون في مصر فسادًا ؛ ليطالبوا بعودة صلاح الدين متسلين بالعزة التي كنا عليها أبان عهده، متذكرين المجد الذي سطره بجهاده .
 

لقد تربت الأجيال على سيرة صلاح الدين الذي آثر حياة الخيام مجاهدًا على حياة القصر حاكمًا ؛ فطيلة عمره كان متنقلًا في الصحاري بين المعارك، ويكفيك أن تسمع اسمه لترتسم البسمة على شفتيك ؛ فهناك رابط شرطي بين اسم صلاح الدين والانتصار، بين لقبه وبين الأمل، بين موسيقى نطق اسمه والتحرير؛ ولذا فلا نلوم الشعراء الذين توافقت قريحتهم مع نداءات الناس، ومنهم الشاعر وحيد الدهشان الذي نادى صلاح الدين قائلا:

ناديته قم لنا نحتاجك الآنــــا ففي غيابك فاض النهر أحزانا
ربوعنا أجدبت وأسفر برعمنا وفي ربانا تنامى الشوك ألوانا
 

لا تعد يا صلاح الدين؛ فلو عدت لوضعوك على قوائم الإرهاب بمصر أو قوائم المطلوبين بسوريا أو سلمك الإنتربول للغرب ليقتصوا من هزيمة حطين.

وقبل أن نسمع رد صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية (532هـ- 589هـ) تعالوا بنا نبحر في سيرة البطل الهمام لنأخذ درة من درره ونضع أيدينا على لؤلؤة من لآلئه ؛ فصلاح الدين هو يوسف بن أيوب، ينتسب إلى قبيلة شرقي أذربيجان، ولد بتكريت بالعراق أبان هجوم الصليبين عليها، وكان والده نجم الدين أيوب مجاهدًا مع آل زنكي، وكان عمه أسد الدين شيركوه وزيرًا على مصر بعد أن وثق به الخليفة الفاطمي العاضد، ثم استلم صلاح الدين وزارة مصر بعد عمه وأرسى دعائم الأمن والتعليم وأعاد مصر إلى أحضان السنة والجماعة بعد أن نزعها من يد الفاطميين بحكمة القائد وحنكة الحكيم لا كما يدعي موالو الشيعة وأعداء السنة، لقد ارتبط اسم انتصار حطين بصلاح الدين ليس لأنه انتصر في معركة (حطين 583هـ) وأزاح الصليبيين فحسب؛ بل لأنه وحد المسلمين قبل حطين بعد جهاد طويل ؛ فوحد تحت الراية العباسية مصر والحجاز وحلب ودمشق وحمص والموصل وإعزاز وغزة وعسقلان.. إلخ.

وقد ذكر الأستاذ محمد على قطب في كتابه أبطال الفتح الإسلامي أن صلاح الدين قام بثورة إصلاحية بمصر بعد استلام الوزارة ؛ فأنشأ المدارس والمساجد والمكتبات دعما للجانب الديني والتعليمي، وفي المجال الصحي أنشأ المستشفيات وكان يطلق عليها (البيمارستان)، وفي الجانب العسكري اهتم بالجيش والقلاع، ولعل قلعة صلاح الدين تقف شامخة شاهدة على تاريخه العسكري والحضاري الذي نقل به مصر نقلة نوعية.
 

ونعود إلى مطالبة الناس بعودة صلاح الدين، هل لو افترضنا أن صلاح الدين سيسمع نداءهم -وأنى له أن يسمع- فهل سيقبل عرضهم ويلبي نداءهم بعد أن يفكر ألف مرة ومرة، أم سيرفض عالمنا المزيف الذي قلبوا فيه بطولاته لخيانة، هل سيُعاملُ على أنه بطل مخلص أم أنه مجرم حرب كما يدعي العلمانيون؟!، فها هو يوسف زيدان يخرج مع عمرو أديب واصفا صلاح الدين بأنه أحقر شخصية في التاريخ ولم يعترض المذيع بل طلب منه التوضيح للاستفادة!! إنها حرب على الدين يا عزيزي وعلى كل رموزه وأبطاله، لقد قال العلمانيون في ديار الإسلام مالم يجرؤ مؤرخو الصليبيين ذكره؛ فلقد مدحه أغلب المستشرقين الغربيين لما عرفوه عن صلاح الدين من نبل أخلاق وقوة إيمان، فلو أن لصلاح الدين أن يعود فماذا سيقول لنا؟ هل سيأخذ شعبية ميسي أو رونالدو؟ هل سيهتم به الإعلام كاهتمامه بأحد المغنيين أو اللاعبين؟!

أما أنا فلن أطلب منك كما يطلبون ياسيدي، بل سأقول لك عكس ما يتوقعون: لا تعد يا صلاح الدين؛ فلو عدت لوضعوك على قوائم الإرهاب بمصر أو قوائم المطلوبين بسوريا أو سلمك الإنتربول للغرب ليقتصوا من هزيمة حطين. لا تعد يا صلاح الدين؛ لوعدت للفق لك القضاء المصري ألف قضية وقضية بتهمة التخابر مع حماس وتكوين خلايا إرهابية مع أسد الدين شيركوه ونور الدين وسبعة آخرين وهذا ليس بغريب على القضاء المصري بتاريخه الزاهر بالتلفيقات ألم يسجن سيدنا يوسف بعدما رأوا آيات براءته ّ! لو عدت يا صلاح الدين سيحاربك جنود السيسي وشبيحة بشار وستعوي عليك كلاب إعلامهم، وسيجردونك من كل مكرمة بل ويلصقون بك كل نقيصة، أولم تكن سببا في موت البحر الميت أنت والشاطر؟ّ! هل تنكر أنك قمت بإغراق فرعون باليم بتحريض من محمد بديع؟!!

وكأني أسمع صوت صلاح الدين يرد على من طالبوه بالرجوع بعد أن علم بأوضاعنا، وعبر عن ذلك قول الشاعر:

فقال: هب أنني لبيت صائحكم وجئت أقطع تاريخا وأزمانا
هل تقبلون مجيئي في بلادكمو؟ وهل أعود كما قد كنت سلطانا؟
أجهز الجند بدءًا من عقيدتهم وأشحذ العزم إخلاصا وإيمانا
سيفي سيؤخذ مني إن أتيتكمو أما حصاني فلن يرتاد ميدانا
وكأنه يعلم مدى الخسة التي وصل إليها إعلامنا فيقول :
وربما خسة قامت صحافتكم بحملة تزدري عهدي الذي كانا
وربما ألصقوا بي كل منقصة وصرت بعد الذي قد كنت خوانا
فهل تريد صلاح الدين يا ولدي حتى يقدم للأعداء قربانا؟!
كل الفوارس في التاريخ تعلنها: تبًا لدنياكمو دعنا لمثوانا
 

الإسلاميون الذي كانوا يعلمون الناس سيرة الأبطال مشردون؛ فلا تتعجب من أن ترى الكلاب يمرحون في العرين طالما أن الأسود خرجوا منه.

أما أنتم يامن تطالبون بعودة صلاح الدين أشفقوا على تاريخه وأمجاده، فيكم ألف صلاح الدين، وبالسجون كثيرون فيهم جينات صبر ونصر صلاح الدين؛ فأزيلوا غبار اليأس والقنوط عن كاهلهم وستجدونه، صلاح الدين يتمثل في كل ثائر صابر، وفي كل معتقل محتسب ثابت، وفي كل مؤمن يمشي على طريق الانتصار لا يحيد؛ فلا تحسبوا أن النصر سيأتي باستجداء التاريخ أو استدعاء رموزه، بل يأتي النصر بإنتاج نسخ معاصرة منهم، فلم لا تقدمون للأمة بطلا كصلاح الدين أو محررًا كقطز أو فاتحًا كمحمد الفاتح، ربوا أبناءكم على سيرة هؤلاء قبل أن يشوه الحاقدون تاريخهم؛ فإنهم يتعاملون مع صلاح الدين كأنه كان مرشدا لجماعة إسلامية ولم يكن سلطانا، ومع الفاتح كأنه من حزب أردوغان لا فاتحا أثنى عليه الرسول وبشر به؛ فسقط القناع عن وجوههم وظهر نفاقهم "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ"، إنهم يدعمون إسرائيل ويخونون حماس!
 

ولا تعجب فهذا هو عصرهم الذهبي للانتقام من التاريخ الإسلامي؛ فالإسلاميون الذي كانوا يعلمون الناس سيرة الأبطال مشردون؛ فلا تتعجب من أن ترى الكلاب يمرحون في العرين طالما أن الأسود خرجوا منه؛ فركزوا على وضع خطط وآليات للعودة للعرين وبعدها ستدخل الحشرات للجحور وستعوي الكلاب بعيدًا عن القصور والدور، ولا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين؛ فصلاح الدين ولد في ظل أزمة الصليبين وقطز تربى أبان تجبر المغول وسيدنا موسى تربى في بيت فرعون ذي الأوتاد، وسيدنا يوسف خرج من قاع الجب لقمة السلطة، ولكنكم تستعجلون؛ فلا تلعنوا ظلام الأمة وأشعلوا فيه مشاعل الأمل واجعلوا وقودها الإيمان والعمل، وليكن بداية نصركم انتصاركم على أنفسكم:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.