شعار قسم مدونات

في حُب الجمادات

blogs ارجوحة

في القدس رائحةٌ تُلَخِّصُ بابلاً والهندَ في دكانِ عطارٍ بخانِ الزيتْ واللهِ رائحةٌ لها لغةٌ سَتَفْهَمُها إذا أصْغَيتْ.

 

(1)
سَمعت أُذناي أحد الأصدقاء يقول في لهجة صادقة: (الجمادات مُخلصة ولا تعرف الخيانة كالبشر). كان كلامه جوابًا عن حبه لـ (البندانة) التي يحبها وعليها علم ثورة سوريا. صديق آخر كان لم نره طيلة خمسة أعوام إلا بمسبحة داكنة اللون في يديه لا تنفك عنه حتى صار يُعرف بها. كانت هذه المسبحة هي آخر ما تبقى من أخٍ مات له في حادثة سيارة. لم تكن هذه المسبحة بالطبع كأي مسبحة، كانت برائحة وروح أخيه.  صديق رأيته يحتضن حقيبته لحبه لها وكُلما سُئل في هذا قال: (تَحملتني). حتى اتخذ لها اسم (عزيزة). وآخر سمى سيارته (غدارة) لكثرة أعطالها في الطريق.

ذكرني صديقي نَوار ب(سيد) وكم يشتاق إليه. نَساه في مكان ولعل سيد يشعر بالوحدة.  سيد هذا هو دُميته الأثيرة التي اصطحبها وهندمها وصارت بينهما صداقة، كان يُمازحه كل صباح ويكاد يُطعمه من فُطُوره. لازتُ أذكر (سميع) الهاتف الرقيق (نوكيا1110) ذو الشاشة المكسورة والذي سمع كل شيء لسنوات عديدة وما اشتكى من كثرة ما سمع، لكم أُرهق بين يديّ فما كان يهدأ من الطَرَقٍ ليلا أو نهارًا.

ينظر بعضهم إليك في تعجب وأنت تُقبل كتابًا لك وتضمه.. بالطبع لا يمكنك لومه في تعجبه، إذ إنه خُلّو من مشاعرك تجاه هذا الورق الأصفر القديم.. بوابتك التي بدأت منها. قرأتك قُبيل النوم، الصحبة في الحِلِ والترحال، دمعات العين التي ترقرقت على الصفحات، خطك الساذج بخط صغير بين ثنايا السطور.

لا تتوقف المشاهدات على أشياء نُسميها (جمادات) صِرنّا نألفها، إنما يتعدى ذلك لنوع خاص من العلاقة هي إلي الصداقة أقرب.. صداقة تامة.. وحنين يهيج حين الغياب، حتى نتخذ للجمادات اسماءً من أوصافها نَعَرَفَها ونُعَرِفِها بها كالأحياء بالتمام.

(2)

صلى الله عليه وسلم.. كان فياض المشاعر، رقيق الحس، جميل الطبع. حازمًا إذا أنهكت حُرمات الله. لا يبخل على أحدٍ بحنان ولو كان جمادا أو حيوانا.. لم يكن صلى الله عليه وسلم كَمَنْ يعيشُ في هذه الحياة دون أن يُضفي بصمة جماله على الأشياء من حواله وإن كانت جمادات

اتخذ صلى الله عليه وسلم من الجمادات والعجماوات رفاقا وسماها بأسماء حفظتها كُتب السير والحديث. اتخذ من السيوف تسعة أو يزيد وسماها بأسماء متنوعة، منها (ذو الفقار) وسُمي كذلك لفقرات في وسطه كفقرات الظهر، والبتار والحتف وغيرهم. وله من الحمير والبغال والنوق: (القصواء) و(دَلدل) و(فِضة) و(عُفير) أو (يَعْفُورُ) وغيرهم. وله من الأقداح والآنية (الريّان) و(المغيث) و(العيدان) وغيرهم.

حتى أعتنى كاتبوا السِيّر بسرد جمادات وعجماوات النبي صلى الله عليه وسلم، ونظم الإمام العراقي في ألفيته أسماء بغاله وأفراسه وسلاحه ولقاحه وحميره وغيرها من أغراضه العجماوت أو الجمادات، وذَكروا في السِير بعض علاقاته معهم صلى الله عليه وسلم. لم يقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الجمادات والعجماوات رفاقا وتسميتها بأسماء مميزة، بل إنه -وفاءً وعرفنا- أخبر بفضل بعضها ورد غيبة بعضها.

لما بَركت ناقته (القصواء) وأبت القيام، قال الناس: خلأت القصواء. فنافح صلى الله عليه وسلم عنهما مستصحبا جميل أصلها وقال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل).  وصح أن النبي كان يخطب على جذع فاتخذوا له منبرًا فترك الجزع. فَحَنَ الجذعٌ له. كان يأن ويحن إلي النبي وسُمع له صوت كحنين الصبيّ، حتى نزل صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فَسَكَنَ. ورويّ أن جَملًا نظر إليه صلى الله عليه وسلم فلما رأه ذرف الدموع فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدمع عن عينيه، وقال لصاحبه: أما تتقى الله في هذه البهيمة التي ملككها الله، إنه شكا إلىَّ أنك تجيعه وتدئبه (أي تتعبه).

صلى الله عليه وسلم.. كان فياض المشاعر، رقيق الحس، جميل الطبع. حازمًا إذا أنهكت حُرمات الله. لا يبخل على أحدٍ بحنان ولو كان جمادا أو حيوانا.. لم يكن صلى الله عليه وسلم كَمَنْ يعيشُ في هذه الحياة دون أن يُضفي بصمة جماله على الأشياء من حواله وإن كانت جمادات.. فهو أرق حالًا ممن لم يؤتوا من الرحمة إلا قليلا.

(3)
علاقتنا بالأشياء أكبر من علاقتنا بمجرد حجارة أو حديد متناثر من حولنا أو مُلقى في سلسة النفايات كما ينظر بعض الناس للجمادٍ. التشابه في الاسم والشكل والوظيفة لا يعني المساواة في المكانة. كيف يُقارن بين مقعد أفنى عليه إنسانٌ جزءً من عمره وصارت بينهما صداقة وعلاقة إِلف بمقعد أتوبيس نقل عام لم يصحبه إلا ساعةً من نهار ثم أنصرف إلى غير رجعة؟! بين المقعدين ما بين السماء والأرض.. وإن جمعهما الاسم والجنس الجماديّ.

مساحات التواصل والعلاقات مع الجمادات والبهائم بحجم الأثر الذي تركته فينا، والوقت الذي جمعنا بها، والبشر الذين شهدوها معنا، والدفء الذي منحوه إيانا ..أوسع هي الحياة الرحيمة من النظر إلي كل جماد بعين ماديّة خالية من أي لمسة جمال. بعض لحظات الجمال قصيرة في العمر الزمني، لكنها طويلة في العمر العريض.. لازلت أذكر بعض الجمادات التي شهدت بعض هذه اللحظات بأشكالها إلي يومنا هذا.. صخر جليم ولوران والمنشية قبل الشروق وفي قلب السحر.
 

بعض الأماكن لا يمكن أن تكون عابرة في حياتنا.. هذه الأماكن أخذت منا. وهذه الصخور ليست مثل بقية صخور وأحجار العالم، هذه الصخور شهدت معنا. هذه البقاع التي شهدت معنا وعلينا صار بيننا وبينها ملاحم من العلاقات

مراقبة النجوم ليلا في ظلمة بعد غياب القمر وسط رذاذ البحر وبين رائحة اليُوود المتصاعدة. وفي حشائش فيلا البرج وحديقة المنتزه حين ينام المرء على ظهره غير عابئ بشيء في هذه الدنيا. المسجد البحري، والنسخة العيقة الصفراء من الكتاب، وفي هاتفي سَمِيّع وذكراه الحسنة. ناصية محطة ترام Weilmdorf – Stuttgart والدمعات التي ترقرت على المقعد الحديديّ حين داهمت الذكرى بمُصاب أحد الأحباب في أمه فصادف بيتا من الشعر لمجنون ليلى هزني كأنه لم يخطر ببالي إلا يومها.

مقاعد حديقة Fredenbaumpark مقعدًا مقعد.. المقعد الذي يلي المشفى حيث تتلعثم الخاطرات، ومقعد الاستقبال والملل السريع من الضوء الأبيض، والمقعد البعيد مع الراحة بين الظلام والنوم في ظل شجرةٍ غاب عنها ورقها في الخريف لكنها خشعت مع سماع سورة يوسف. والمطر الذي أصاب منا ونحن لم ننتبه له.. بعض الأماكن لا يمكن أن تكون عابرة في حياتنا.. هذه الأماكن أخذت منا. وهذه الصخور ليست مثل بقية صخور وأحجار العالم، هذه الصخور شهدت معنا. هذه البقاع التي شهدت معنا وعلينا صار بيننا وبينها ملاحم من العلاقات حتى أَضَحت بعض هذه العلاقات أوثق من علاقتنا بكثير من البشر.. علاقات حفظت الود وصانت الحزن والفرح وشهدت على القُبح والجمال سويّا.. كان فيها الراحة والروح.. والروح لها من دُروبٌ الراحة غير دروبٍ راحة البدن.

في حب الجمادات والعلاقات غير العاقلة.. مع الأشجار والورد والزرع ولُوح الرسم والسماء والسحاب وحب الأطفال لدُماهم ونسمات العصر والسحر وسكون الليل ورذاذ البحر. علاقة خاصة – ولو مرة واحدة – مع زهرة غَناء في أرض قحط وقحل يعلم بها المتعجبون بسؤالهم: لِمَ وكيف يغمر الحب الناس مع جماداتهم في علاقة خاصة. لغة الجمادات مُلغزة! فكيف يفهم لغة ملُغزة من ليس من أهلها؟! "هل هناك أجمل من قوس قزح؟! لكن من بداخله لا يراه". بيجوفيتش – هروبي إلي الحرية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.