شعار قسم مدونات

الفلسفة فنّاً للعيش

blogs تساؤلات

لم أعد أذكر متى قرأتُ ذلك الكتاب تحديداً، ولم أعد أذكر ما هي البواعث والأسباب التي دفعتني لقراءته، أو إذا ما كانت هناك بواعث وأسباب أساساً، كلّ ما أذكره أنّه كان يحمل عنوان: "الفلسفة فنّاً للعيش" للدكتور عبد السلام بن عبد العالي، ولستُ هنا بصدد الخوض في متن ذلك الكتاب أو موضوعاته الكثيرة التي على الرغم من أنّ بعضها حمل عناوين عادية إلا أنّ طريقة عرضها تميّزت بتجاوز مقاليد العادية، حيثُ عمدَ المؤلّف إلى ابتكار رؤية ذاتية خاصة به مكنته من تجاوز سطحها والغوص في أعماقها بعيداً عن طرق التقليد السطحية في التناول والعرض.

وإنّ طريقة عرض المؤلّف لموضوعات ذلك الكتاب -والتي تميّزت بسلوك طرق ابتكارية أساسها الرؤية الذاتية والولوج إلى العمق- هي ما يُهِمُني هنا عند الحديث عن الفلسفة كفنّ للعيش أو طريقة للحياة، فكثيراً ما يُؤخذ عليّ بأنني أنحو هذا المنحى في نظرتي للعالم من حولي وفي رؤيتي للأشياء المحيطة والتي أعبّر عنها في نصوص يتَّهِمني بعض من يقرأها بأنّني مُحبّة للاستعراض أو كما يقولون لي دائماَ باللغة العامية: "مفلسفة زيادة عن اللزوم".

إنّها تُهمة الفلسفة الزائدة عن اللازم -إذن- التي تدفع الكثيرين ممن يقرؤون ما أكتبه أو يستمعون إلى حديثي؛ تدفع بهم إلى رفع لافتة أصواتهم الحمراء في وجهي قائلين: "بلاش فلسفة"، أثقُ بأنّ آلافاً غيري قد وُجِّهت لهم هذه العبارة في أحد الأيام التي حاولوا فيها كسر تلكَ النمطية الجماعية في التفكير والتعبير عبر ابتكار طريقة ذاتية خاصة في الرؤية والتساؤل والتفكير والتعبير.
 

كثيراً ما يُنعت الأطفال بأنّهم كائنات فيلسوفة، أيْ كائنات متسائلة ومندهشة على الدوام ومُحبّة للمعرفة، والذي يحدث لهم في العادة أنّ ذلك تساؤلاتهم تبدأ بالاختفاء تدريجياً كلّما مرّ عليهم الزمن وتقدّم بهم العمر

فهذا هو ما يحدث كثيراً في مجتمعاتنا العربيّة التي تَرفع لافتات الاعتراض في وجه كلّ من يحاول إثبات فردانيته عبر رؤية ذاتية خاصة يستخدمها في النظر وتأمّل المحيط من حوله، إنّها ثقافة "بلاش فلسفة" التي تسود في مجتمعاتنا وتحمل في طياتها العديد من الإشارات الأُخرى التي تستهدف بالدرجة الأولى القضاء على ملكة التفكير والتأمّل الخاصة التي يتميّز بها كلّ فرد عن غيره، بما يُؤدي إلى سيادة أنماط تفكير جماعية يستثمرها أصحاب الاتجاهات الأيديولوجية في زيادة أعداد المنتمين إلى تنظيماتهم على اختلاف أشكالها؛ فأسهل مهمة تضطلع بها هذه التنظيمات -سواء أكانت حزب أو فصيل أو جماعة مذهبية أو مجموعة طائفية- هو استقطاب الفرد الذي خلع جلده وتخلّى عن فلسفته ورؤيته الذاتية ليدخل ضمن فلسفتها هي ورؤيتها هي وطريقتها هيَ في التفكير. 

أخيراً، فإنّه كثيراً ما يُنعت الأطفال بأنّهم كائنات فيلسوفة، أيْ كائنات متسائلة ومندهشة على الدوام ومُحبّة للمعرفة، وهذا النعت يُمكن التأكّد منه عبر ملاحظة ذاك البريق الواضح الذي يظهر في عيونهم عندما يقفون وقفة متسائلة أمام مشهدية ما تُشكّل لهم لُغزاً، والذي يحدث في العادة أنّ ذلك البريق يبدأ بالاختفاء تدريجياً كلّما مرّ عليهم الزمن وتقدّم بهم العمر؛ يبدأ بالاختفاء بسبب ما يُقابَلون به ممن حولهم من عبارات -مثل عَيْب وحرام- تحظر عليهم حقّهم في التأمّل والدهشة والتساؤل والتفكير، أجل.. كلّ طفل في عالمنا يُولد فيلسوفاً، ومحيطه إما أن يُنمِّي فيلسوفه الصغير القابع داخله أو يقصقص جناحه أو يحكم عليه بالإعدام. 

وعن نفسي، فيُمكنني أن أعتبر أنّ تُهمة الفلسفة الزائدة التي أُرمى بها دائماً هي أكبر دليل على أنّ مُحيطي لم ينجح في إنزال حكم الإعدام على فيلسوفي الصغير الذي كان ماكثاً فيَّ في مرحلة الطفولة، كذلك لم ينجح ذلك المحيط في قصقصة جناحه، لقد كبر ذلك الفيلسوف الصغير معي، وكان في كلّ مرحلة عُمرية يُزوّدني بطاقة دهشة وتساؤل متجدّدة، لكنّ تأمّل أحوال فيلسوفي الصغير -الذي كبر معي- يجعلني أتحسّر على كلّ الفلاسفة الصغار الذين نجح محيطهم في الإطاحة بهم، فلم يكبروا مع أصحابهم وتمّ قتلهم بصمت وعلى مهلٍ وروية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.