شعار قسم مدونات

الشهور الأخيرة

BLOGS-- بعد الموت

(1)
دوخة خفيفة جعلته يجرى بعض التحاليل وكانت النتائج المبدئية اشتباه في ورم على الرئتين! بمجرد سماعه لهذا الخبر أظلمت الدنيا من حوله وجلس يفكر في كل شيء في لحظة واحدة، في زوجته وأولاده وكيف أنه قصّر معهم ولم يكن لهم نعم الزوج أو الأب، وتذكر تقصيره مع أبويه وإخوته، وتذكّر تقصيره في الواجبات وارتكابه لبعض المحرمات، تذكّر الكثير من النقائص التي اعترته طوال حياته القصيرة وكيف أن الوقت المتبقي لن يكفي من وجهة نظره للتكفير عن ذنوبه أو جبر نواقصه لأنها كثيرة، وكان عليه في هذه اللحظة أن يقرر ماذا سيفعل في هذه الأيام القادمة، هل سيهتم بإصلاح ما قد أفسد؟! أم سيهتم بعائلته وينشغل بتجهيز حياة أفضل لأسرته بعد رحيله؟! أم ماذا سيفعل؟!

(2)
لقد قرر أولاً أن يتحرك في مسارين أحدهما الاهتمام بالعلاج والآخر الاهتمام بالبيت والعمل والأقارب والأصدقاء، فهو يدرك أن الغالب على حالته أنها لا تتجاوز الأشهر القليلة وكل يوم يمر يصبح أضعف من اليوم الذى سبقه. لقد أصبح هذا الرجل أكثر شروداً وابتسامته أكثر شحوباً ولكنه أكثر اهتماماً بصلاته في المسجد والمحافظة على أداء النوافل كاملة وقراءة ورد القرآن اليومي وكذلك الاستغفار والتسبيح مع إحساس مؤلم بالندم على تقصيره في أيام العافية واستبدال ذلك بالاهتمام بتصفح المواقع على الإنترنت وحسابات الفيس بوك وتويتر وغيرها والدخول في مناقشات عقيمة وحروب بالوكالة وتصنع عداوات من الهواء والانشغال بمباريات الكرة والجلوس على الكافيهات والسفر والرحلات والواتس وبرامج الشات مع التقصير الشديد في بر الوالدين والزوجة والأولاد!

 

صبح صاحبنا يتصل بوالديه كل يوم مرة وأحياناً مرتين ويذهب إليهم كثيراً حتى أن أمّه لم تسترح لهذا التغير رغم أنه تغيّر للأفضل، فهي تدرك بقلبها أن هناك ما أصاب ابنها ولكن لا تدرك حقيقته

وكل يوم يتذكر مثل هذه الأشياء ويشعر بالمرارة الشديدة ولكنه لا يملك الكثير من الوقت، وعندما يذهب إلى بيته ويرى أولاده وهم يلتفون حوله فيقفز أصغرهم في حجره لكى يعانقه فإن هذا الأب يحتضنه بشغف وحنان بالغ ويستشعر أنه سيفقد هذا الحضن الصادق والدافئ عما قريب لذلك يطيل معانقة ولده ويتمنى أن يبكى وهو بين صدره ولا يمنعه من ذلك إلا خوفه على أسرته من شعورها بمرضه ومن ثمّ تصبح الأيام المتبقية عبارة عن محْزنة بلا طائل وكآبة بلا عائد!

(3)
لقد أصبح صاحبنا يتصل بوالديه كل يوم مرة وأحياناً مرتين ويذهب إليهم كثيراً حتى أن أمّه لم تسترح لهذا التغير رغم أنه تغيّر للأفضل، فهي تدرك بقلبها أن هناك ما أصاب ابنها ولكن لا تدرك حقيقته!اتصل صاحبنا بالكثير من أصدقاءه يطلب منهم العفو عنه فهو يخاف أن يترك الدنيا وفى رقبته مظلمة واحدة لأحد منهم، وكان الكثير منهم يتساءل لماذا يفعل ذلك؟! فهو لم يكن ينشغل بمثل هذا من قبل؟ بل لقد كان يحرج بعض أصدقاءه ولم يفكر مرة في الاعتذار له أمام الناس؟!

زوجته كانت مستغربة للغاية من هذا التحول العجيب الذى أصبح عليه صاحبنا، فلقد أصبح كثير الهدوء قليل الكلام رحب الصدر ولا يتعصب كما كان من قبل، واصبحت مشادتهما شبه منعدمة ولكنها تلمح في عينه نظرة الحزن مع الشرود حتى أنها ظلت تسأله كثيراً عما به؟ ولكنه لم يزد عن قوله أنه بخير ولكن يريد أن يتغير ليس أكثر! ولأنها تعرفه جيداً فلم تنطلي عليها هذه الإجابة بل شعرت بأن في الأمر شيء مخيف لكنها لا تعرف ما هو؟!

(4)
أصبحت نظرات صاحبنا للحياة مختلفة للغاية، فهو ينظر لها بعين الرحيل عما قريب جداً لا بنظرة المكوث والاستقرار مثلنا! لذلك لم يعد مهتماً بالنظر إلى السيارات ولا ماركات الملابس ولا أنواع الطعام ولا الشراب، بل لم يعد يدخل إلى المولات ولا إلى المتاجر الكبيرة لأنه لم يعد لديه إقبال على ما لذ وطاب من متع الدنيا فلقد تغيرت نظرته وذهبت غفلته حتى أنه كان في حاجة لحذاء جديد ولكنه لم يفكر في شراءه حيث أن الحذاء الذي يرتديه يكفي لهذه المدة القصيرة المتبقية في حياته!

أراد صاحبنا أن يصلى قيام الليل فكان ينتظر نوم الجميع حتى يتسلل إلى غرفة الصالون لكي يصلى بها حيث أن زوجته وأولاده لم يتعودوا على أن يروه مقيماً لليل من قبل إلا نادراً! لذلك خشى أن يفهموا أن به علة قرب انتهاء الأجل لذلك اقترب من ربه حين دنو أجله!
 

تردده على طبيب الأورام أصبح متكرراً وكذلك على معامل التحاليل والإشاعات وهناك رأى الكثير ممن يشاركونه نفس الهموم ونفس الشحوب وكانوا ينظرون لبعضهم نظرة الأموات لا الأحياء فكل منهم يدرك أنه عند اللقاء القادم عند الطبيب سيجدون أحدهم قد رحل في صمت! وهم جميعاً ينتظرون هذا المصير لكنهم لا يعرفون التوقيت ولا الترتيب!

(5)

نظرته للخلاف أصبحت أكثر رحابة وشعوره بأن الاستمرار في الصراعات الفكرية بهذه الطريقة الحاده لم يجنى منه إلا سواد في القلب وشراسة في الحرب وتنطعاً في الطرح!

إنه يتابع نشرات الأخبار ويتعجب لتصرفات الدول والجماعات والكيانات، وينظر لهذه الحروب نظرة استحقار وعتاب، ويرى أن هذا كله مآله إلى لا شيء! فهو لم يعد ينظر إلى الحياة وإنما ينظر إلى المآلات!

(6)
نظرته للخلاف أصبحت أكثر رحابة وشعوره بأن الاستمرار في الصراعات الفكرية بهذه الطريقة الحاده لم يجنى منه إلا سواد في القلب وشراسة في الحرب وتنطعاً في الطرح! وأن كثيراً من المسائل كان من الممكن تضييق الخلاف فيها لولا استخدام العبارات القادحة والألفاظ القاتلة والاتهامات الصادمة! وأن كثيراً منها لم يكن لرضا الله وإنما لنصرة النفس في صورة نقاء المنهج وتغيير المنكر! فمن كان منهجه صحيحاً فإن عبارته رفيقة ونقده نصحاً وتصحيحاً، ولكن صاحبنا لم يلتفت لهذا إلا بعد فوات الأوان!

(7)
ما زالت نظرته لأولاده الصغار هي أكثر ما يقتله، وعباراتهم التلقائية هي أكثر ما يحزنه من الفراق، فإنهم لا يعرفون حقد القلوب ولا الاستمرار في ذكر النقائص والعيوب!

(8)
يوم وراء يوم وصحته تتعرض للنكسات وجسده يزداد نحولاً ووجه ذبولاً ومن حوله يكتشفون مرضه فتزداد الدموع سقوطاً من المُقل، وكلمات الصبر تقع عليه كثقل الجبل! فهو لا يحب ان يكون مثاراً للشفقة ولا أن يكون مرضه باباً للحكايات!

(9)

تنطفئ الشمعة، وتُسكب العبرات وتأتى الجموع من كل حدب وصوب لتدعوا لصاحبهم الذى ترك الدنيا شاحباً وذابلاً لكن لعلّهُ تركها وهو مغفورُ له!

أصبح لسانه رطباً من كثرة الاستغفار، وقلبه أكثر تعلقاً باسم الله الغفّار، ولم يعد يحلق لحيته وكثيراً ما يجمع أولاده ومعهم زوجته ليذكّرهم بالله ويوصيهم بأن يكونوا على مستوى المسئولية وأن يصبحوا عائلة قوية وأن يتماسكوا أمام إغراءات الدنيا وأن يلتفوا حول أمهم إذا غاب عنهم يوماً فلكل أجل كتاب، والجميع يذرفون دموع الحب الساخنة لهذا الوالد العظيم ويشعرون أن قطعة من قلوبهم على مقربة من الانفصال، وأن حياتهم سينقصها هذا الحب وهذا الود وذاك الجمال!

(10)
تنطفئ الشمعة، وتُسكب العبرات وتأتى الجموع من كل حدب وصوب لتدعوا لصاحبهم الذى ترك الدنيا شاحباً وذابلاً لكن لعلّهُ تركها وهو مغفورُ له!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.