شعار قسم مدونات

من مذكراتي في غزة.. إلى أمهات الأسرى

مدونات - الجزيرة
لعبة الكتابة لعبة لذيذة.. لكنها في أحيان كثيرة تنقلب من حلم إلى كابوس؛ حين تختلط الصور والأحداث وتنتقل المشاهد من الورق إلى الواقع وليس العكس! هذا ما حصل معي عندما رأيتُ أمّ الأسير "حسن سلامة" ها هي جدتي "صفية" تخرج من الورقة.. لأراها واقفة بلحمها ودمها تزور عمي في سجنه!

الساعة الرابعة عصراً.. إننا هنا في مخيم خان يونس للاجئين.. ها نحن نقف أمام بيت أمّ حسن سلامة. عندما تقف أمام باب من أبواب غزة يستيقظ النّوار وتتلّون الحكايا بالعابرين الكثر وبالأسرار. كل باب خلفه حكاية تنتظر العاشقين! كل باب يفتح ذراعيه ليحضن العائدين! كل باب أقف أمامه يهزني بعنف.. كما تهز الغيمة المطر الذي في جعبتها.. فتندلق الحكايا المعلقة على حبل الجرح!
 

نتجاوز العتبة.. نصعد الدرجات الموصلة للبيت. في أعلى الدرج.. تقف ختيارة فلسطينية يشع وجهها نوراً.. مضيئة كخيط الفجر.. قوية كشعاع الشمس.. تعانق كل منا وكأنها ابنتها الغائبة!
– ما شاء الله عليك يا حجة.. هلاّ عرفنا لمين حسن طالع! حاجة مثل القمر.. تبدو أصغر مما تخيلت وأكثر حماسة مما توقعت! لم أكن أتوقع أن أرى حاجة آسرة الجمال والروح، طيبة وصدرها واسع بوسع عمرها الممضوغ بالغياب!
 

عندما سمعت أنّ بيريز يطالب بإعدام حسن :"بدِّي تْبَلَّغْ لي بيريز تاعَك زي ما أخذ حسن سلامة بثار يحيى عياش.. فيه مِيْة واحد بياخذ بثار حسن سلامة!".

أقبّل رأسها كما كنتُ أُقبّل رأس "جدتي صفية" أتأملها طويلاً، أراها تشبه جدتي في أشياء كثيرة.. في عشقها ورائحة ثوبها وابتسامتها وجرحها المفتوح على صدر الوطن وخصلات شعرها المتسربة من تحت شاشتها البيضاء.. تشبه جدتي في انتظارها ويقينها بعودة الغائب!
 

جلستْ على كرسي وسط الغرفة التي امتلأت عن بكرة أبيها.. بثوبها الأسود المطرز بالفلاحي وخلفها صورة كبيرة لابنها الأسير حسن سلامة! أنظر في ملامح حسن.. ملامحه من ملامحنا وذهبية وجهه من قمحنا وخضرة يديه من زيتوننا والدم النابض في عروقه هو دمنا.. غير أننا لا نشبهه! اختار الفعل في زمن الخرس واخترنا الكلمة الثورية والكتابة المغلفة بالحنين لمطاردة وطن دُفن تحت ردم الغربة!
 

– أهلا وسهلا بالجميع في بيت حسن سلامة..
وأخذت تزغرد وتهاهي..
ياحسن يا سلامة.. ياتاج على راسي
لانحن بعناك ولا الناسي
يلَّلي أخذت بثار يحيى عياش

قالت: هذي زغرودة زغردتها يوم ما زرت حسن في السجن. ولما زغردت كل المساجين كبّروا واليهود شردوا من الخوف.. يومها قال لي الضابط "إنتِ أخطر من حسن ومن يحيى عياش!" ثلاث عشرة سنة ولم ترَ حسن! تطلب زيارة ويوافقوا عليها وعندما تصل معبر إيريز لا يسمحون لها بالدخول! عندما رأته بعد هذه المدة الطويلة.. قالت: "آخ من الدنيا.. إنت مْخَتْيِرْ وأنا مختَتْيِرة!".قالت للضابط بعد انتهاء الزيارة عندما سمعت أنّ بيريز يطالب بإعدام حسن :"بدِّي تْبَلَّغْ لي بيريز تاعَك زي ما أخذ حسن سلامة بثار يحيى عياش.. فيه مِيْة واحد بياخذ بثار حسن سلامة!".
 

تحترق أشياء كثيرة داخلي وتتدفق كشلال. تحترق الأنظمة العربية والانكسارات والهزائم.. وتُثقب الكروش المنتفخة ويتدفق وجه فلسطينيّ يحمل وعداً بالنصر وعشقاً منذوراً للأرض والزيتون وميلاداً يخرج من فم الموت ومهرة لا ترضى إلا بأرض تفتح بابها للشمس! أخرج من بيت حسن سلامة.. أضع رأسي على نافذة الميكروباص.. أبحث في وجوه المارة عن وجه حسن سلامة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.