شعار قسم مدونات

السلطان برسباي وفتح جزيرة قبرص

مدونات - مسجد برسباي

مع توالي الاعتداءات التي يقوم بها القبارصة على سواحل الدولة المملوكية والهجوم الذي قام به ملك قبرص بطرس الأول لوزجنان ضد الاسكندرية سنة 1365م، ثم أغار على طرابلس سنة 1367م ولما فشل قام بعدة غارات صغيرة على جبلة واللاذقية وبانياس؛ ثم إن قبرص غدت وكراً لقراصنة الصليبيين يخرجون منها للإغارة على البلدان والسفن الإسلامية. وكان من المستحيل أن يصبر المماليك على تلك الاعتداءات المتكررة من جانب قبرص وملوكها، والواقع أن التفكير في غزو قبرص بدأ جدياً سنة 1365م، إذ أمر يلبغا الخاصكي ببناء المراكب والسفن كما أرسل إلى الشام يأمر بتشغيل كل من يعرف يمسك منشاراً في قطع الخشب وبناء السفن برسم غزو قبرص. (1)

وفي سنة 1423م وردت الأخبار بأن الفرنج أخذوا مركبين من مراكب المسلمين قرب ثغر دمياط فيهما بضائع كثيرة وعدة من الناس يزيدون على مئة رجل، وبأن ملك قبرص جانوس استولى على سفينة محملة بالهدايا مرسلة من برسباي للسلطان مراد العثماني.(1) فعقد السلطان برسباي العزم على فتح جزيرة قبرص، وأخذ يستعد لذلك بتجهيز المراكب وتجميع العساكر، وأرسل لها ثلاث حملات متتالية في ثلاث سنوات، ابتداء من سنة 827هـ/1424م وكلها في شهر رمضان.
 

في الحملة الثالثة استهدف برسباي فتح الجزيرة وإخضاعها لسلطانه، وكان قد بلغه أن جانوس ملك قبرص "راسل ملوك الفرنج يستنفزهم على المصريين ويشكو ما جرى على بلاده، فأرسل كل منهم له نجدة".

خرجت الحملة الأولى في سنة (827هـ / 1424م)، وكانت حملة صغيرة نزلت قبرص، وهاجمت ميناء "ليماسول"، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة، وغنموا غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة. شجع هذا الظفر أن يبادر برسباي بإعداد حملة أعظم قوة من سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في رجب (828هـ /مايو 1425م) مكونة من أربعين سفينة، "ولما تكاملت العمارة جهز الأشرف الجند، وتوجه صحبتهم من المطوعة عدد كثير، وركب إلى الساحل فعرض الجميع وسافروا إلى دمياط، وكان جابوش – صاحب قبرص -جهز أميراً يقال له باله في تسعة أغربة، فوقف على فوهة دمياط يمنع أغربة المسلمين من الدخول في البحر الملح فوقف هناك، فصادف مجئ العمارة من الإسكندرية فقصدوهم فانهزموا منهم بغير قتال، وسافر الجميع من فم دمياط إلى طرابلس فانضم إليهم المراكب المجهزة منها ومن بيروت، واجتمع فيها من الأمراء والجند والمطوعة ومن العشير والزعر عدد كثير"3.

ثم راسل كبيرهم أي قائد الجيش الإسلامي وهو جرباش الكريمي جانوس في الدخول في الطاعة فامتنع، فسافروا إلى جهته فوصلوا إلى الماغوصة، فطلع الخيالة وأكثر المشاة وضربوا خيامهم بالبر، فحضر رسول صاحب الماغوصة ومعه ضيافة وقال إنه في الطاعة، فأعطوه أماناً…ولما تمت لهم في الماغوصة أربعة أيام وقد أوسعوها نهباً وأسراً قصدوا الملاحة.. وصلوا إلى اللمسون، فحاصروا الحصن الذي هناك فأخذوه عنوة وملؤوا أيديهم من الغنائم والأسرى وأحرقوا الحصن، وكان ذلك في يوم الخميس مستهل شوال." (4) وذكر ابن حجر" إن عدة من قتل في مدة نصف شهر من الفرنج خمسة آلاف، ولم يقتل من المسلمين في هذه الغزاة إلا ثلاثة عشر نفساً"(4) وعادت إلى القاهرة تحمل بين يديها ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال.

وفي الحملة الثالثة استهدف برسباي فتح الجزيرة وإخضاعها لسلطانه، وكان قد بلغه أن جانوس ملك قبرص "راسل ملوك الفرنج يستنفزهم على المصريين ويشكو ما جرى على بلاده، فأرسل كل منهم له نجدة"(5)، "فأمر السلطان لما بلغه ذلك بعمارة الأغربة والحمالات، وجد في ذلك وبذل الأموال، فلما تكاملت العمارة انحدرت إلى قوة ويقال إنه بلغت عدة العمارة أغربة وحمالات وزوارق مائتى قطعة وزيادة؛ وندب السلطان ينال الجكمي وتغري بردى المحمودي وغيرهما من الأمراء الكبار والصغار للغزاة وأن يكون ينال على من في البحر والآخر على من في البر وأن لا يعارض أحدهما الآخر، وكان معهم من الأمراء مراد خجا الشعباني وإياس ويشبك الشاد واينال الأجرود وسودون اللكاشي وجانم المحمدي وغيرهم؛ وتلاقت المراكب من الإسكندرية مع المراكب المصرية بثغر رشيد في رجب."(6)

فأبحرت مائة وثمانون سفينة من رشيد في (829هـ / 1426م)، واتجهت إلى ليماسول،" فوجدوا الحصن الذي كانوا أحرقوه قد عمر وشحن بالمقاتلة فأحاطوا به في السابع والعشرين…فهرب الفرنج الذين في الحصن بعد أن كانوا أوقدوا قدور الزفت تغلي ناراً ليصبوها على من يصعد إليهم من المسلمين، فهزمهم الله تعالى وملكوا البرج الأول، وأحاط بعض المسلمين بالأسكتية وهي قرية من قبرص خارجة عن حكم جانوس نظير الماغوصة وهي مع البنادقة، فطلبوا من المسلين الأمان فأمنوهم…فسألوهم عن جانوس فقالوا إنه مستعد في خمسة آلاف فارس وسبعة آلاف راجل، فراسلوه بأن يدخل تحت الطاعة ليؤمنوه على نفسه وجنده وبلده وإلا مشوا عليه وخربوا قصره وأسروه وقتلوه، فلما بلغته الرسالة أخذته حمية الجاهلية فقتل الرسول وأحرقه، فبلغ المسلمين الخبر في مستهل رمضان فانقسموا قسمين النصف مع المحمودي في البر والنصف مع الجكمي في البحر" (7).
 

قبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق السلطان على أن يدفع مائتي ألف دينار فدية، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسلطان المماليك، وأن يكون هو نائبا عنه في حكمها، وأن يدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار.

ثم وقع القتال بين الفريقين فاستظهر المسلمون على القبارصة " فلما رأى جابوش أمر عسكره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن عسكره خالفوه وحملوا، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر، فاتفق أن جابوش وقع عن فرسه فنزل أصحابه فأركبوه، فوقع ثانياً فنزلوا وأركبوه، فكبا به الفرس ثالثاً فدهشوا وذهلوا عنه، وانكسر عسكره وولوا الأدبار، فرآه بعض الترك فأراد قتله فصاح: "أنا الملك فأسروه." (8)

"فلما كان يوم الخميس خامسه ساروا إلى الأفقيسة وهي كرسي المملكة…واستمر المحمودي حتى أخذ المدينة هو ومن معه وذلك في يوم الجمعة خامس شهر رمضان، فخشى من مع المحمودي على أنفسهم لقلتهم فشجعهم المحمودي، ثم دخل القصر فوجد به من الأمتعة ما لا يحصى، فأقاموا بها صلاة الجمعة وأذنوا على صوامع الكنائس، ثم خرجوا يوم السبت ومعهم الغنائم الكثيرة والأسرى، فلما وصلوا إلى المراكب اجتمعوا وأحصوا عدد الأسرى فكان ثلاثة آلاف وسبعمائة نفس."(9)
 

ثم رجعت الحملة إلى مصر واحتفلت القاهرة برجوع الحملة الظافرة التي تحمل أكاليل النصر، وشقّت الحملة شوارع القاهرة التي احتشد أهلها لاستقبال الأبطال وكان ذلك يوم الاثنين ثامن شوال سنة829هـ، وكانت جموع الأسرى البالغة 3700 أسير تسير خلف الموكب، وكان من بينها الملك جانوس وأمراؤه.

واستقبل برسباي بالقلعة ملك قبرص، وكان بحضرته وفود من أماكن مختلفة، مثل: شريف مكة، ورسل آل عثمان، ورسل ملك تونس، ورسل أمير التركمان، ورسل ابن نعير، وكثير من قصاد أمراء الشام. فقبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق السلطان على أن يدفع مائتي ألف دينار فدية، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسلطان المماليك، وأن يكون هو نائبا عنه في حكمها، وأن يدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار. (10) وبذلك دخلت قبرص في طاعة دولة المماليك حتى سقوطها على يد العثمانيين.

_______________________________________
الهوامش:
1)سعيد عاشور:الحركة الصليبية،ج2/ص423.
2)ابن حجر:إنباء الغمر بأبناء العمر،ج3/ص346-348.
3)المصدر السابق،ج3/ص347.
4)المصدر السابق:ج3/ص348.
5)المصدر السابق:ج3/ص366.
6)نفس المصدر:ج3/ص367.
7)نفس المصدر:ج3/ص368
8)نفس المصدر:ج3/ص369.
9)نفس المصدر:ج3/ص369-370.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.