شعار قسم مدونات

مقدّمة قصيرة.. كيف نقرأ التاريخ الإسلاميّ

مدونات - الخلافات السياسية
مع كلِّ أزمةٍ جديدةٍ، وكلِّ تصريحٍ من شخصيّةٍ عامةٍ، أو أطروحةٍ خارج السياق يقدِّمها باحثٌ عما له علاقة بالتاريخ الإسلاميّ، أو ما يتعلَّق بالتراث الإسلاميّ عامةً يتجدّد الصراع، ويحتد النقاش حول الأمر، كلٌّ ينظِّر إليه من جهته الخاصة.

هناك من يرى أنّه لا فائدة من نكء جراح الماضي والعبث فيما سَبق، خوفًا على الإسلام وتاريخه من التشويه، وفريقٌ آخر وأنا منهم يرى ضرورة البحث والتنقيب والتحليل فيما سَبق، وضرورة دراسة تلك الشخصيات والأحداث ووضعها في سياقها الصحيح، وفريق آخر يرفض الخوض في تلك الأمور ويُضفي على هذه الأحداث والشخصيات هالةً غريبةً من التقديس الغير قابل للاقتراب أو التصوير، وفريق يرى أنّه يجب أن نقيّم الأحداث بمقاييس العصر الذي نعيش فيه الآن.

وما بين هذا الفريق وذاك، وما بين هذا المبدأ وتلك الفكرة، نحتاج إلى أن نضع مبدئيًا بعض القواعد والأساسات التي أرى أنّها ربما تضع الأمر في سياقه الصحيح، ومحاولةً لتفسير ما حدث في الفترة الأولى من حياة التجربة الإسلامية، وغيرها، دينية كانت أو سياسية، فأظن أن ما سيُذكر هنا مهم، لمن هم مثلي، وللجميع أيضًا.

الصحابة ليسوا أصحاب قدسيّة مطلقة، وتحكَّم بهم ميراثهم الجاهليّ، وأهوائهم الشخصية كبشر، فمنهم من تطهر من ميراث الجاهليّة، ومنهم من فشل في ذلك.

إنّنا هنا لسنا بصدد الحديث عن الخلافات بين الصحابة وفتنتهم، ولا عن معركة صفّين، ولا عن استبداد معاوية وتغييره لوجه التجربة الإسلامية ككل، ولا عن صلاح الدين وكيف سار إلى القدس، ولا قطز ودماء المماليك، إنّنا هنا للحديث عن بعض القواعد التي وضعها وجمّعها الباحث محمد بن مختار الشنقيطيّ، في كتابه "الخلافات السياسيّة بين الصحابة".

تلك الدراسة التي وضعها في مكانة الأشخاص وقدسيّة المبادئ، ورغم تحفُّظي على كثيرٍ مما يكتب الشنقيطيّ عامةً، إلا أن هذا الكتاب هو واحد من أهم ما قرأت، ومن أفضل ما مررت عليه وشكّل جزء كبير من وعييّ، فتبدأ في قراءة الأحداث الشائكة مرتاح البال، موضوعيّ، مجرّدًا من هالة التقديس، ومقاومًا للأرق والاضطراب الذي يصيب أي شخص يبدأ في القراءة عن تلك الفترات المليئة بالأحداث المزلزلة، عن رءوسٍ طارت تبحث عن أجسادها، ودماءٍ اختلطت بالماء كأنَّ لا حرمة لها.

ولنبدأ في الحديث عن بعض القواعد التي ذكرها الباحث في كتابه، والتي يتطلب الأمر إتّباعها، مع العِلم بأنّها ليست بنفس الترتيب في الكتاب وقد أضفت لها بعض من صياغتي الخاصة:

– القاعدة الأولى: الاعتراف بحدود الكمال البشري
الصحابة بشر، ونحن بشر، فيهم من النقص البشريّ ما فينا، وفي نفوسهم ما في نفوسنا، مع فارق الزمن والتجارب التي مروا بها ونمر بها، فالنتيجة في النهاية أنَّ الصحابة ليسوا أصحاب قدسيّة مطلقة، وتحكَّم بهم ميراثهم الجاهليّ، وأهوائهم الشخصية كبشر، فمنهم من تطهر من ميراث الجاهليّة، ومنهم من فشل في ذلك، فمثلًا تأخّرَ سيدنا عليّ عن البيعة لسيدنا أبو بكر، والذي قال عنه ابن تيمية أنّه كان يريد الخلافة لنفسه في أول الأمر، وما حدث من أزمةٍ في السقيفة بعد وفاة النبي (ص) ماذا يمكن أن يقال في هذا سوى أنّ الصحابة كانوا بشرًا طبيعيين، لهم أهواء خفيّة سيطرت على اجتهاداتهم ومواقفهم؟ ومن المهم أخذ تلك القاعدة في الاعتبار سواء في الحديث عن الصحابة، أو مشاهير التاريخ الإسلاميّ عامة.

– القاعدة الثانية: الإقرار بثقل الموروث الجاهليّ
إنّ المقصود هنا ليس الموروث الوثنيّ، بل ما هو مقصود هنا هو الميراث السياسيّ والاجتماعيّ الجاهليّ الذي عاش فيه المسلمون الأوائل أكثر عمرهم قبل دخولهم الإسلام، فقد تحرّر من تحرّر منهم من ذلك الموروث، ومنهم ما بقي هذا الأمر يتحكَّم فيه ويؤثِّر على مواقفه في الأحداث المفصلية في بداية التجربة الإسلامية، فتعتبر مواقف وكلمات أبو سفيان وقت بيعة أبي بكر دليل على ذلك الموروث، حيث كان رافضًا، أو معترضًا على تولية أبي بكر أمر المسلمين وهو – أبو سفيان – من بني عبد مناف، وأبي بكر من بيت تيم، الذي كان أقل منزلةً وشرفًا ونسبًا منه، وقد أثّرت هذه الموروثات على أحداث الفتنة بين الصحابة، وأشعلت النيران بينهم حتى تقاتلوا.

– القاعدة الثالثة: الأخذ بالنسبيّة الزمانيّة
إنَّ كثيرًا مما نراه الآن حادثًا عارضًا صغيرًا كان سببًا في حدوث انحراف جوهري في طبيعة التجربة الإسلامية، وكثيرًا مما نظنُّه عظيمًا كان مكرّرًا حتى أصبح التعامل معه على أنّه أمر طبيعيّ، ولذلك فمن الضروريّ وضع الحدث في سياقه الزمنيّ، والتعامل معه على حساب زمنه لا زمننا، حتى يتضح لنا حقيقته.

لفتن السياسيّة التي حدثت للجيل الأول من المسلمين لم تكن ذات وجه واحد، ولا يمكن النظر إليها نظرةٌ أحاديّة فقط، فللفتن أسباب وتراكمات أدت إليها، لم يكن الأمر دينًا فقط، ولا دنيا فقط.

– القاعدة الرابعة: عدم الخلط بين المشاعر والوقائع
إنَّ من يقرأ من الباحثين، أو المسلمين العاديين عن الجيل الأول من المسلمين، وعن الفتن والاقتتال الذي تم في هذه الفترة يتمنّى من كل قلبه أن لا تكون تلك الخلافات قد حدثت من الأصل، ويؤرِّق ذلك نومه ربما لما كان يظنُّه عن ذلك المجتمع اليوتوبيّ، ويرجع سبب هذه الصدمة إلى اختلاط المشاعر الخاصة للباحثين والكتّاب التاريخيين وبين الوقائع التي حدثت فعلًا، فنجد البعض منهم يوصِّف مجتمع الصحابة كأنّه مجتمع لا تشوبه شائبة، وعندما يتعمّق القارئ في التاريخ، أو يقرأ من مصدر موضوعيّ يُصدم مما يقرأ، وذلك بسبب مغالطة الخلط التي وقع فيها الباحثين وانحرافهم عن المنهج العلميّ الصحيح في البحث، فمنهم الذين ينكرون أحداثًا مفصليةً في تاريخ الجيل الأول من المسلمين كواقعة الجمل وصفّين، وأيضًا ارتكاز البعض على العديد من النصوص والروايات الضعيفة؛ لأنّها تُريح باله فقط، أو نفي البعض لدخول بعض الصحابة المبشرين بالجنّة في الفتنة، وغير ذلك من الأمثلة والمواقف التي اختلطت فيها مشاعر الناقل مع حقيقة الأمر مما أنتج نتاجًا به عوار بيّن.

– القاعدة الخامسة: إدراك الطبيعة المركّبة للفتن السياسيّة
إنَّ الفتن السياسيّة التي حدثت للجيل الأول من المسلمين لم تكن ذات وجه واحد، ولا يمكن النظر إليها نظرةٌ أحاديّة فقط، فللفتن أسباب وتراكمات أدت إليها، لم يكن الأمر دينًا فقط، ولا دنيا فقط، فمثلًا لم تكن عملية اغتيال سيدنا عثمان عملية تآمر فقط، فلقد كان هناك من الأسباب ما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى الفتنة حتى لو لم يكن فيها تآمر، مثل القرارات السياسيّة الخاطئة لسيدنا عثمان، ومواقف العديد من أهله وأقربائه أثناء حكمهم، وغيرها من الطبيعة المتغيّرة للأحداث وقتها، ولذلك فمن الضروريّ التخلّي عن النظرة الأحادية للأمر، ومحالة النظر للأمر كمجموعةٍ كاملةٍ من الأسباب والمؤثرات.

وأخيرًا، سأكتفي بذكر تلك القواعد الخمسة فقط، وقد ذكر الكاتب حوالي اثنين وعشرين قاعدةً يرى أنهم ضروريين في التعامل مع الأمر، ومع تحفّظي على بعض مما كُتِب، ولكن أرى أنّه ضروريّ قراءة هذا الكتاب، ومن ثم يمكن بعدها القراءة في التاريخ الإسلاميّ بنفسٍ راضية متقبّلة لما ستواجه وتقرأ من أحداث.

ويلزم التنويه بأنَّ ما هو مكتوب هنا يمكن تطبيقه على كل فترات التاريخ الإسلاميّ، على صلاح الدين، قطز، بيبرس، وغيرهم، وأن يوُضع كلًّ منهم في سياقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.