شعار قسم مدونات

لماذا لا أنتمي؟

blogs الانتماء

بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كثيرا ما يطرح عليّ سؤال الانتماء. سؤال أنقذتني منه مهنتي كصحفيّ مضطرّ للحياد وإن كان غير مانع للاختيار الحرّ معلنا كان أم مخفيّا. غير أنّي لا أنتمي، أو هكذا يخيّل إليّ على الأقلّ. إنّ قضيّة الانتماء إلى أرض أو إلى قوم أو إلى دين أو إلى مجموعة تلزمك بالتفكير والتصرّف مثلها أو حتّى مجرّد مشابهتها يجعلني ابتداء أحسّ بكثير من الاختناق؛ حيث أنّي أقرّ الحرّية كفكرة غير قابلة للتجزئة ولا للحدّ، وحيث يبدو رهاب المجتمع ورهاب السلطة ورهاب الدين ورهاب المجموعة المحيطة بي كلّ لحظة كغول يزعجني، يتربّص بي ولا يريد تركي وشأني، وحيث تصبح الحياة هروبا متواصلا من القرب من أي حدّ يمكن معه أن أصنّف أو أحسّ نفسي أسير "الانتماء".

لماذا لا أنتمي؟
الوطن العربيّ كذبة فضحها أحد أساتذتي في الثانويّة عندما سألني وبوضوح: "أين الدّليل على كونه وطنا؟" فكلّ ما فيه يوحي بأنّه بالتأكيد غير ذلك. 

 

الدّين الإسلاميّ قضيّة مؤلمة مؤرقة، لا نحن ملحدون فننسى الله والآخرة ولا نحن مؤمنون فنتبع طرق الأنبياء والصالحين بما يحقق رضا السماء ويجعل الملائكة خادمة لنا في كلّ حين ويستجلب النصر الإلاهي لـ "أمّتنا" ويجعل أرواحنا تطير في ملكوت الحقّ والحقيقة المطلقة بعيدا عن أدران الدّنيا أو شهوات أنفسنا وعبث الشّيطان بنا..
 

الإيديولوجيا معمية، مانعة للتفكير، مبرمجة لمعتنقها على الاتباع والتبرير وخوض الحروب واجتناب النزاهة.. الإيديولوجيا أيضا من الانتماءات عديمة الفائدة التي ابتلينا بها

الوطن، باختصار راية يرفعونها فوق المؤسسات الحكومية ونشيد رسميّ يدّعي الرئيس ومن معه من الحكّام الفاسدين تقديسهم له، بينما يسرقون الوطن ويفقرون المواطن ويقتلون أو على الأقل يسجنون ويشوهون سمعة المعارض، ويخدمون الفساد والفسدة.

الإيديولوجيا: إسلاميّ أو يساريّ أو علمانيّ أو غيرها… كلّها تتصارع منذ عشرات السنين على أرض انتماء آخر هو الوطن لنصرة انتماء ثالث هو الأمة أو القبيلة أو الحزب أو الطائفة.. وكلّهم يعملون لمصلحة القائد حامي حمى القيم التي لا تترجم على الأرض أبدا. الإيديولوجيا معمية، مانعة للتفكير، مبرمجة لمعتنقها على الاتباع والتبرير وخوض الحروب واجتناب النزاهة.. الإيديولوجيا أيضا من الانتماءات عديمة الفائدة التي ابتلينا بها.

لماذا لا أنتمي؟ ألهذه الدرجة لا أجد تحت أيّ يافطة ظلّا أرضاه يقيني حرّ التّيه والبعد عن المجموعة والاختلاط بالقطيع؟ هل أنا بذلك مبالغ أم مترّفع أم مكابر؟ إنّني لا أتحدّث هنا عن نفسي فقط، بل أشكو حال جيل شابّ تائه جزء منه ثار وجزء فضّل النّوم في العسل وجزء آخر غادر المشهد ليتركه لمحتكري الانتماء مدّعي الطّهوريّة الوطنية أو الإسلامية أو الإيديولوجية، وهي في الأخير طهوريّة مصلحيّة المبتدأ والمنتهى.

لا أبالغ إذا قلت إنّي شخصيّا وقد غادرت بلدي منذ أكثر من سنتين لم أعد أفكّر في العودة إليه ولا في التّعليق حتّى على الأحداث التي تجري داخله. فعمّاذا يمكن أن أعلّق؟ وأجدني بالمناسبة أبحث عن تعريفات جديدة لهوّيتي.. مع الأسف لا يمكن تحقيقها..  قلت للبعض أفضّل أن أعرّف على أنّي إنسان.. غير أنّي بذلك أيضا أغالط نفسي، فعمليّا لا يوجد لهذا التعريف تصريف ولا فائدة.. أين الإنسان وأين حقوقه؟ كلّنا نرى المجازر اليومية والعبث بهذا الإنسان لتثبيت عرش أو لمليء جيب منتفخ أصلا.

لا تنتم ولا تعطهم الفرصة حتّى يجعلوا منك رقما على قائمة أتباعهم.. ولا تنتم وتعط التاريخ الفرصة ليسخر منك.. ولا تنتم وتسمح لذاتك العميقة جدّا بالذّوبان في سطحيّة الذّوات المتشابهة

هل من الضّروري أن ننتمي؟ 
لا أدري حقيقة، غير أنّي أجد هذا السؤال في حدّ ذاته يحمل إجابته، فإنّي لو لم أكن بحاجة للانتماء لما طرحت السؤال أصلا. فلأفترض أنّي انتميت، فإنّي بذلك سأشابه بعضهم.. إذا عدت للوطن فإنّي مجبر على التعامل مع حكامه لانتخابهم ومع إدارته ورشوتها لقضاء مصالحي، ومع إعلامه ليخدّرني ويسخر من عقلي.. على الأقلّ.. وسيكون النظام بذلك قد نجح في اختراقي وتدجيني..

إنّ من يترك النّظام يطحنه لا يستحقّ الحرّية ولا يستحقّ القوّة. بالمناسبة فإنّ الانتماء قد يعني القوّة لبعضهم.. إذ الذئاب لا تأكل إلّا من الغنم القاصية.. وكأنّنا غنم.. نعيش في غابة ونحتاج راعيا.. منطق قروسطيّ مقيت يتحكّم بأجيال متتالية من العرب والمسلمين فاقدي القدرة على الحركة خارج أطر الشيوخ..

لا تنتم ولا تعطهم الفرصة حتّى يجعلوا منك رقما على قائمة أتباعهم.. ولا تنتم وتعط التاريخ الفرصة ليسخر منك.. ولا تنتم وتسمح لذاتك العميقة جدّا بالذّوبان في سطحيّة الذّوات المتشابهة.. إنّ البحث العميق عن طرق الخلاص والمضيّ بعيدا عن القطيع لهو الطّريق الوحيد الممكن في عالم أصبح فيه التشابه مستحيلا لإنسان يسعى للحفاظ على نفسه من الاختطاف. اصنع بنفسك وطنك.. ليكن أرض الله الواسعة التي لا تعجز عن الحركة فيها ولا يحدّك عليها حدّ.. وستنجح وستنفتح الأبواب.. تأكّد.. اصنع بنفسك دينك، ليكن ذاك الّذي أنزله الله على أنبيائه واتبعه الصالحون والأولياء عبر الأزمان والعصور، لا دين أصحاب العمائم بائعي تعاليم السماء بعرض الدّنيا..
 

أنت راية عظيمة لوحدها.. أنت وطن بنفسك. أنت أصل لغيرك.. فلا تظنّ أنّ متسلسلة التّوارث الّتي خلقنا عليها الله مكبّلة، بل هي معلنة لانطلاق كلّ منّا بعد إنشائه

اصنع بنفسك آرائك واقتل الشرطيّ في رأسك.. امتنع عن الاتّباع واكفر بكلّ ثابت تصنعه بروباغندا أوليغارشيا الإعلام والسّياسة والمؤسسات الرّسميّة. لا تصدّق التّلفزة ولا تؤمن بالخطب العصماء.. آمن فقط بحدسك الصّادق متجرّدا للحقّ والحقيقة.. ولا تنتم. أنت هو أنت، كائن مختلف لا رقم وتابع. ألم يقل ديكارت: "أنا أفكّر إذن فأنا موجود". جد نفسك إذن بالتّفكير ولا تدعهم يضيعونك عن نفسك بالتفكير بدلا عنك.
 

أنت راية عظيمة لوحدها.. أنت وطن بنفسك. أنت أصل لغيرك.. فلا تظنّ أنّ متسلسلة التّوارث الّتي خلقنا عليها الله مكبّلة، بل هي معلنة لانطلاق كلّ منّا بعد إنشائه.. لا تنتم.. ولا تسألني مجدّدا عن انتمائي ولا تسمح لأحد أن يسألك عن انتمائك، فكلّهم يريد تصنيفك لمصلحة ما ولحسابات لديه لا تهمّك، بل تحُدّك وتضيّعك وتجعل منك هدفا لهم. هل مازلت ترى الانتماء مظلّة وجُنّة؟ هل مازلت تظنّه إيمانا؟ أم هو نقيض الإيمان كما أراه أنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.