شعار قسم مدونات

رب بذرة صغيرة أحيت أمة

blogs الأمل

لا يوجد في الدنيا فكرة عظيمة وأخرى دون قيمة، والفرق بينهما كبير، وما يحدث هذا الفرق الواضح هو وجود الإيمان خلف كل منهما، والعلاقة هنا طردية، فكلما زاد الإيمان بالفكرة أو المبدأ أو النهج عظمت قيمته حتى ولو كان بذرة صغيرة، لإن مصير البذرة الصغيرة أن تنمو وتثمر حين يشتد عودها وحين تجد حولها الرعاية والإصرار والمثابرة، ووعد الله عبده بأن لا يضيع له مثقال ذرة من خير، بشرط أن يسكن قلبه اليقين المطلق بعدل الله ورحمته الواسعة، ومن هنا تصبح الأفكار والقيم البسيطة التي يتبناها الإنسان في حياته ذات قيمة عظيمة.

ولا أتحدث هنا عن تلك الأفكار والقيم المادية التي قد تتغير باختلاف الزمان والمكان وطبيعة الناس، والتي ترتبط بثقافات وعادات وتقاليد بعينها، فهذه مصيرها الطبيعي التغير والتحول واتخاذ أشكال متعددة ومتجددة توافق سير البشرية وانخراطها في أطوار ومراحل سمتها عدم الثبات وانعدام الاستمرارية المطلقة، وهذه من سنن الكون التي أوجدها الله سبحانه وتعالى بدقة بالغة لتوافق الطبيعة التي جبل عباده وخلقه عليها.

لعل صفة المبالغة والتهويل والمادية البحتة التي اعتاد بعض الناس على تبنيها في حياتهم و جعلها المعيار الذي يحكم نظرتهم وعلاقتهم بالآخرين، هي التي أرست قاعدة أن الفكرة او النهج الذي تختاره لنفسك يجب أن يكون ذا حجم كبير وصيت واسع لكي يكتسب قيمة ومعنى

ومن هنا تداول الناس عبر العصور نصيحة قيمة، بأن لا تفرح فرحا مبالغا فيه ولا تحزن حزنا يشل حركتك، ولا تأمن لحال من أحوالك مهما عظم، فدولاب هذه الحياة في حركة دائمة ومستمرة، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في معنى انتفاء صفة الدوام لشيء، تلك الأيام والأحوال نداولها بين الناس، فحال اليوم قد لا يكون هو حال الغد، وإني لأرى حكمة بالغة وراء ذلك لكي لا تكف أنت كمخلوق ضعيف عن المحاولة المستمرة في غرس بذور صغيرة في داخلك ومن حولك، لتنمو براعم تتفتح منها أزهار وثمار بإذن ربها، ولتحيا بها أرواح ظنت بأن التغيير الذي ترتجيه لا يحدث إلا بقوى خارقة وعظيمة.

ولعل صفة المبالغة والتهويل والمادية البحتة التي اعتاد بعض الناس على تبنيها في حياتهم و جعلها المعيار الذي يحكم نظرتهم وعلاقتهم بالآخرين، هي التي أرست قاعدة أن الفكرة او النهج الذي تختاره لنفسك يجب أن يكون ذا حجم كبير وصيت واسع لكي يكتسب قيمة ومعنى، وهم غافلون أننا نحن من يخلق المعنى والقيمة لما نؤمن به، لا سيما ما وافق منه الفطرة السليمة التي جبلنا عليها، والتي مهما كابر معظم الناس وراهنوا على عدم أهميتها، أو عدم مناسبتها لرذم الحياة السريعة التي نعيشها، أو عدم مواكبتها لما يحدث على أرض الواقع، أو اختلافها عن أولويات هذا العصر الذي اكتظ بثانويات ألهت الناس وجعلتهم يلهثون وراء سراب صنعوه بأيديهم.

وقد يتجرأ البعض ليتهمك بأنك تعيش خارج هذا العصر الذي يحتاج صراع البقاء فيه أن تنخرط في حثيثياته وتغرق في تفاصيله حتى أذنيك، على أمل أن تجد لنفسك في هذا العالم الصاخب حيزا صغيرا يراه الآخرون ويشيروا إليه في غبطة وإثارة أن هذا فلان قد مر أو كان يوما هنا، وقد نسوا أو تناسوا أن البصمة الحقيقية هي تلك البصمة التي تغرسها أنت في قلبك، وتعود لتراها وتشعر بجمال إنجازها، كلما أحسست بكمد أو هم يحاول اقتحام عالمك الصغير، لتعود وتسقي تلك البذرة الصغيرة التي آمنت وتيقنت بنموها عندما لم يرها غيرك بذات أهمية أو قيمة، وها أنت تحصدها كبيرة وعظيمة لأنها دوما كانت في قلبك.

انثر بذورك لترى تلك الأزهار الجميلة تحيط بك، تمتع بها ناظرك، ويحيا بها قلبك، فما وجدنا على هذه الأرض إلا لكي نزرع الخير والقيم الطيبة لتثمر الأمل الذي يبقينا على قيد الحياة

بذور كثيرة نستطيع أن ننثرها هنا وهناك، في كل محيط نكون فيه، في العمل، وفي الشارع، في الأسرة، ومع الأصدقاء والأقارب والغرباء، مع الصغير والكبير، ولكل من يحتاج مساعدتنا إن طلبها وإن تعفف عن سؤالها، فبذور الخير ليس لها حدود ولا تنحصر في مكان أو زمان، ولا تنحصر لذا جاه أو مال، هي بذور لا تحتاج إلا لتربة خصبة ويد حانية وإيمان عميق ويقين بالله لا تقلع جذوره ريح عاتية.

انثر بذورك لترى تلك الأزهار الجميلة تحيط بك، تمتع بها ناظرك، ويحيا بها قلبك، فما وجدنا على هذه الأرض إلا لكي نزرع الخير والقيم الطيبة لتثمر الأمل الذي يبقينا على قيد الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.