شعار قسم مدونات

أين تكمُن النكبةُ تحديداً؟

مدونات - فلسطيني

العقلُ خاضَ مراراً وتكراراً في ذاك التاريخ باحثاً عن أسبابه ومسبباته، والمشاعرُ يعتليها التحسُر والخذلان، نُكِبَ غيرُنا ولكنهم نهضوا، أما نحن وكأن نَكبَتُنا لا تعرف النهوض أبداً!، عندما بحثتُ في ثنايا التاريخ وطياته لم أجد شيئا أكثر مما وجدتموه، ولم أشعر إلا بما شعرتموه، ولكن يجب علينا أن ندرك تماماً أننا ابتعدنا عن ذلك التاريخ سبعون عاماً ولا زالت فِلسطين منكوبة! ليست تلك النكبة تحديداً إنما هي أعظمُ من معنىً يظهرُ لنا عندما تلتصق أربعة حروفٍ على سطرٍ واحد.

أين النكبةُ تحديداً؟
لعل التاريخ يحمل كثيراً من الأمثلة على تلك النكبات، وسنذكرُ أقربها إلى الذاكرة، في الحرب العلمية الثانية لعل اليابان نالت نصيباً كبيراً وبارزاً من ويلات الحرب؛ لأنها كانت ساحة الاختبار الأول للقنبلة النووية، عدا عن جفاف مواردها الطبيعية إلا أنها الآن من أنجع دوال العالم الأول، لنقف بضع ثوانٍ ونفكر ما الفرقُ بين الياباني والفلسطيني بعد النكبتين؟، حقيقةً لا شيء سوى أن إحداهما حَكَمَ عقلهُ لنهوض والآخر تاه في حيرةِ سُبل النهوض، لذلك النكبةَ نكبةُ العقل ليس أكثر أو أقل؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما كنا على هذا الحال اليوم.
 

النكبة حولت الحركات الوطنية التي في جوهرها وعنوانها الأساسي التحرير إلى حركات تبحث عن التحرر والحكم في الوقت ذاته، ومع مرور الزمن أصبحت تبحث بصورة أولى عن الحكم وليس التحرر.

النكبةَ الحقيقية يُمكنُ إِيضاحُها بمثالٍ بسيط، عندما يولدُ طفلاً ضعيف البنية يحتاج إلى حضانة لكي يبقى على قيد الحياة أو لضمان نموه بصورةٍ سليمة على الأقل، فهل يعقل أن يعيش ذاك الطفل في ظروف طبيعية وهو لا يملك من القدرة أدناها للبقاء والاستمرار بصورة سليمة على قيد الحياة؟، هذا ما حصل فعلاً مع فلسطين الطفلة التي لم يشتد عودها حتى وضعت لتصارع المستذئب الدولي المدلل للعالم دون حضانةٍ تعوضها عن نقصها، فما بالك بتلك التي لا تملك بنيةً تمكنها من العيش بصورةٍ طبيعية وافتقادها للحضانة التي تعوضها عن ذلك النقص بل ودخولها في صراع مع مستذئب دولي! فهذا يقود إلى سبيل الموت حتماً.

ليس من الطبيعي أن يعيش الجسد في ظروفٍ طبيعية وهو ليس سليماً من الأساس، لذلك هو بحاجةٍ إلى ظروف استثنائية تخوله من العيش بصورةٍ طبيعية، بالغة السياسية أن تجعل شعباً يعيشُ حياة طبيعية وهو في ظروف غير طبيعية فهذا يقود إلى الهلاك المحتم.
 

الشعب الفلسطيني يعيش في بيئة صراع على الصعيدين الخارجي والداخلي، فعلى الصعيد الخارجي هو في صراع مع الاحتلال، أما على الصعيد الداخلي فهو يعاني من صراع مزدوج على المال والسلطة؛ لأن النظام السياسي ديمقراطي والنظام الاقتصادي رأس مالي فالأول قاد الأحزاب الفلسطينية إلى الصراع على السلطة الذي من آثارهُ الانقسام بين قطبي الفصائل الفلسطينية تحديداً، أما الثاني قاد الشعب إلى الصراع على المال، والصراع الداخلي المزدوج أخطر بكثير من الصراع مع الاحتلال؛ لأن الصراع الداخلي أدخل الفلسطينيين في دوامة أبعدت أنظاره عن الصراع الثاني عدا عن الانشغال في أثار ذاك الصراع المزدوج، والسبب في ذلك النكبة الكبرى (أوسلو).

"دخول الشعب الفلسطيني وقيادته في دوامة الصراع على الحكم والمال في مرحلة يتوجب أن لا ينساق إلى ذلك الصراع المزدوج: الصراع على الحكم: وهذا ظهر جلياً بصورة بارزة جداً بعد النكبة الكبرى (اتفاقية أوسلو 1993م)، فهذه النكبة حولت الحركات الوطنية التي في جوهرها وعنوانها الأساسي التحرير إلى حركات تبحث عن التحرر والحكم في الوقت ذاته، ومع مرور الزمن أصبحت تبحث بصورة أولى عن الحكم وليس التحرر، وتتنافس هذه الحركات عن طريق الوسائل الديمقراطية للوصول إلى سدة الحكم وكأنها أحزاب في دولة مستقلة، كما برزت حدة الصراع بين الحركات الهجينة على الحكم إلى حد الاقتتال عام 2007م مما سبب انقساما سياسيا كرس الانقسام الجغرافي، فسلبت المنافسة على الحكم بين الحركات الفلسطينية الهدف الرئيس لها.
 

الصراع على المال: نظام السوق الحر، هو نظام اقتصادي ينظم نفسه بنفسه عن طريق العرض والطلب، وهو أساس الدخول في هذه الدوامة، كل فرد لديه بالفطرة حب التملك والسعي نحو المال وزيادة الثروة، ونظام السوق الحر يوفر لكل فرد المساحة والعنان الذي يمكنه من الوصول إلى تحقيق رغباته المادية، الدخول في الصراع على المال في مرحلة البحث عن التحرر أمر في غاية الخطورة؛ لأن الفرد سيسعى كل يوم للبحث عن المال وهدف الفرد الأساسي كل يوم هو المال وهذا الشيء في ظل الظروف الطبيعية لا في ظل وجود الاحتلال، وبما أن النظام الاقتصادي الحر يخلق أغلبية فقيرة وأقلية غنية،

ما نحن بحاجته هو التغير الفكري الذي يؤمن بالنهوض بالعمل السليم، والإيمان بالوصول إلى ذروة المراد بعدها، فالأساس في النكبة إدراكها جيداً وليس أحيائُها بالتحسر والندم.

وبما أن الأغلبية تُغيب في هذه الدوامة يصبح سعيها نحو المال، والأقلية التي تمتلك المال والثروة يتربى في ذاتها الخوف والجبن على فقدان الثروة والمال، وبذلك سيصبح الفرد جبان، والخوف والجبن لا يمكن أن يقودا إلى تحرر، وهنا تصبح الأغلبية مشغولة بصورة كاملة في البحث عن المال للعيش بصورة كريمة، أما الأقلية ستزيد ثروتها فيزيد جبنها وخوفها، فبالدخول في هذا الصراع على المال والتملك يغيب الشعب بأغلبيته الفقيرة وأقليته الغنية بصورة مغناطيسية، بحيث يصبح الهدف الأول لكل فرد وكل يوم هو البحث والعمل من أجل المال وليس من أجل التحرر.
 

المال والسلطة بيد فئة معينة، والفئة الحاكمة بقراراتها منسجمة مع الأقلية الغنية، لذلك يتضح بأن البوصلة الحقيقية للقضية ليست الوطن بل المال والسلطة .الصراع على الحكم والمال لا بد من كبح جماحه في مرحلة يسعى فيها الكل الفلسطيني لتحقيق هدف ما وهو يقبع تحت لعنة الاحتلال؛ لأن هذا الصراع المزدوج يحرف أي شعب تحت الاحتلال عن هدفه الرئيس، حيث أن الشعب الفلسطيني انساق في هذه الدوامة بصورة أساسية بعد النكبة الكبرى فتولد لديه مشاكل عميقة كالانقسام السياسي الذي نشهده اليوم، ويفترض أن يكون عمل الكل لأجل هدف رئيس واحد". فالبيت الفلسطيني الداخلي يجب أن يفقد النظام الديمقراطي والرأس مالي بصورة مرحلية؛ لأنه يقود إلى الصراع على السلطة والمال الذي يشغل الشعب وقيادته بأنفسهم والذي بدوره يُبعدُ الفلسطينيين عن الهدف الأساس وهو الاحتلال.

لعل ما نحنُ عليه اليوم لا يوصفُ إلا بالموت القادم وخاصةً إذا استمر الوضع الراهن، إلا إذا خرجنا مما نحنُ عليه وكان لتغير كلمةٌ أُخرى، فإدراك الأمر جيداً أول الوصول، النكبة الحقيقية هي العقل الفلسطيني الذي لم يعمد يوماً على التفكر جيداً في النكبة الحقيقية وسبُل النهوض السليم دون العودة إلى متاهات الماضي أو أمجاده لتقديسها، فالعودة إليه ما يجب أن تكون إلا لتعلم من مرارتُه، لطالما كانت الفكرة أقوى من كل شيء فما نحن بحاجته هو التغير الفكري الذي يؤمن بالنهوض بالعمل السليم، والإيمان بالوصول إلى ذروة المراد بعدها، فالأساس في النكبة إدراكها جيداً وليس أحيائُها بالتحسر والندم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.