شعار قسم مدونات

هي المُكَرّمة

General view of the Kaaba at the Grand Mosque in Mecca, Saudi Arabia September 9, 2016. REUTERS/Ahmed Jadallah

ما إن تطأ أرضها قدماك حتى تشعُرَ أنّك أصبحتَ شخصاً آخر، بقلبٍ جديد وروحٍ جديدة غير تلك البالية التي قدمتَ بها. تصبح نظرتك للأشياء مختلفة، كلّ ما فيها يلفتُ الأنظار ويسلبُ الألباب، كلّ ما فيها مختلف. تنخرط بين الجموع، تشاهدُ الأسمرَ والأشقرَ والأبيض، أتوا من كل بقاع الدنيا، من مختلف الأعراق والأمصار، يتحدّثون جميع اللغات واللهجات، فرّقتهم الجنسيات ولكن جمعهم الدين ووحّدتهم القِبلة.

عندما تتأمّل تلك الأعداد المهولة التي جاءت من كل حدبٍ وصوب لنيل رضا الخالق والتقرّب إليه بزيارة بيته الحرام تستشعر عظمة هذا الدين، الذي وحّد المسلمين رغم اختلافهم الشديد، وتحمدُ الله كثيراً أن وهبكَ نعمة الاسلام وكفى بها نعمة، وتحمدُ الله أن فطركَ عليها ولم تكن بحاجة إلى أن يرشدكَ أحدٌ ما إلى هذا الدين العظيم.

عندما تتأمّل تلك الأعداد المهولة التي جاءت من كل حدبٍ وصوب لنيل رضا الخالق والتقرّب إليه بزيارة بيته الحرام تستشعر عظمة هذا الدين، الذي وحّد المسلمين رغم اختلافهم الشديد.

ومع اختلاف الأجناس والأعراق الذي تعايشه هناك ينبغي لكَ أن تحمدَ الله على الوعي الديني وانتشاره في جميع البلاد العربية، والذي نحسّ بقيمته وأهميّته عندما نرى بعض الأشخاص من الشعوب الأعجمية الفقيرة والتي تجهل بعض أمور دينها الاسلامي فتقوم ببعض الممارسات الخاطئة بتأدية العبادات، فتشعرَ بغصةٍ لجهلهم بأمور دينهم، وغصةٍ أكبر رثاءً على حالهم، فهم يمضون العمر بأكمله يدّخرون ويستعدّون لهذا اللقاء العظيم، وهم بالكاد "يفكّون الخط" باللغة العربية وربّما لا يفهمون ما يقرأون من المصحف الشريف والأدعية المأثورة.

فتشعرَ بالأسى على حالهم، وتتمنّى لو تستطيع أن تفقههم بأمور دينهم وتعلّمهم لغة القرآن حتى يقرأوه بكلّ يسر ودونَ تكلّف. كما أن زيارة بيت الله الحرام تمنحك فرصةً عظيمة لتحقيق السلام الداخلي والتصالح مع النفس والغير، حيث أن الجميع سواسية، لا فرق بين الغني والفقير، ولا الأبيض والأسود، ولا حتى العربي والأعجمي، الجميع على أرضٍ واحدة يؤدّونَ الشعائرَ ذاتها.

وهذا ما يدعوكَ إلى ضبط الأعصاب والتواضع والانشغال بالنفس عن الانشغال بالآخرين، فتسعى في هذا المكان العظيم إلى الارتقاء بنفسك والسموّ بروحك. عندما تلجُ إليها تختلف كيمياء جسدك، ترقّ مشاعرك وتسخى بماء عينيك، تسمعُ آيات الله تُتلى عليك فتذرفُ الدّموع وكأنّك تستمع إلى القرآن الكريم للمرة الأولى في حياتك، ويقشعرّ بدنك لنفس تلك الآيات التي كنتَ تتلوها ليل نهار في بلدك، ولكنّها الروحانية التي تملأ المكان، واستشعارك بأنّك في بيت الله، وهل يوجد بقعةٌ على الأرض أطهر وأعظم من هذه!

هي مكّة التي كرّمها الله ببيته الحرام، وبهجرة رسوله الكريم إليها عندما شعر بالضعف والهوان على قومه. هي التي احتضنت نبيّنا المصطفى وأصحابهُ الكرام عندما احتاجوا العون والايواء. مدينة نشأت في قلب الصحراء، تغزوها الجبال الصخرية، يسودها مناخ صحراوي حار، وليس بها أيّة مقوّمات جاذبة للسيّاح لا من حيث الطبيعة ولا المناخ، ومع هذا كله تجدّ القلوب تشتاق إليها وتهفو للقائها.

تنخرط بين الجموع، تشاهدُ الأسمرَ والأشقرَ والأبيض، أتوا من كل بقاع الدنيا، من مختلف الأعراق والأمصار، يتحدّثون جميع اللغات واللهجات، فرّقتهم الجنسيات ولكن جمعهم الدين.

كنتُ أجهلُ سبب ذلك إلى وقتٍ قريب، عندما علمتُ أنّها دعوةٌ ارتقت إلى السماء منذُ آلاف السنين، وجعلت مكّة من أحبّ البلاد إلى العباد، ألا وهي دعوة أبو الأنبياء سيّدنا ابراهيم عليه السلام حين ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل في مكة واستودعهم عند الخالق وقال"رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ".

ما أعظمها من دعوةٍ تلكَ التي بقي أثرها إلى وقتنا هذا، بل وسيمتدّ إلى قيام الساعة. ترجع من بيت الله الحرام بفائض من السعادة والمشاعر الجميلة التي تُنسيك المصاعب التي واجهتها والتعب الذي تكبّدته، فتدعو الله أن لا يحرمكَ زيارة بيته المحرّم وأن يجعلك من زوّاره الدائمين، ف زيارة الكعبة شرفٌ عظيم يصطفي رب العباد من يشاءُ من عباده لمنحه إياه. جعلنا الله وإياكم من المصطفَينَ لنيل هذا الشرف العظيم ورزقنا العودة إلى البيت الحرام مراراً وتكراراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.