شعار قسم مدونات

فلسفة الشهادة

blogs - martyr
لا أدري كيف يكون عقل وقلب رجل ودّع أهله وخرج من بيته وغالب ظنه أنه لن يعود! ماذا دار في ذهنه وهو في طريقه؟ أو دعني أقول ماذا دار في ذهنه عندما سار حياته في طريق علم أن آخره قد يكون "القتل"؟ وفي النهاية، ماذا دار في ذهنه في اللحظات الأخيرة، لحظة أحس بدفء الرصاصة في بطنه وأحس بالإعياء يسري في جسده؟ كيف كان إحساسه؟
 
هل الشهيد زاهدٌ في الحياة يائسٌ منها؟ هل يضحي بحياته لأنها تعيسة أو مملة؟ هل هو انتحار بصورة أجمل؟ كلا؛ الشهداء أكثر حبًا للحياة وفهمًا لها، ولكن ثمة فرق كبير بيننا وبينهم! نحن نحب الحياة حتى نبخل بها، وذلك – والله – قصور فهم وضعف بصيرة وخَوَر عزيمة.

أما الشهيد فإنه يحب الحياة حتى يتقالّ حياتنا تلك القصيرة الفانية ويبتاع بها حياة الخُلد، نحبها حتى نحرص عليها على أي حال؛ وهو يحبها حتى لا يرضى أن يعيشها إلا كريمًا عزيزًا في غير هوان ولا مسْكَنَة، نحبها فنعيشها مَرة واحدة؛ وهو يعيش حيوات عديدة ويعيش ذكرُه ورسالتُه بعده أزمنة مديدة!

سما الشهيد عن أنانيتنا؛ فإن كان سعْيُنَا الحثيثُ لنفع أنفسنا وحمايتها، فإن سعيه هو للقيم والمبادئ والمعاني! يقول: لو كانت الدعوة لا تعبر إلا على قنطرة فذاك جسدي.

نحن نعيش حياتنا في توجُّس وقلق، نخاف الموت ونحذر منه، وإن لقيناه في طريق – وإن كان طريق العز والكرامة – فررنا منه زحفًا وأعيننا في أقفيتنا، أما الشهيد فقد قهر الموتَ وأخافه، يلقاه ثابتًا رابط الجأش باسمًا؛ حتى يتردد الموت في الإقبال عليه، ويخفت زئيره، ويهتز صوته، وينطفئ غضبه، وينسدل ذراعاه ويهِنَان، ويظهر الرعب في عينيه كأنه هو الذي يُنزع، الشهيد يُهيب الموت ويحزنه ويسلبه سلطته!

بلغ الشهيد قمم الفضائل.. إن عددنا مكارم الأخلاق وعرضناه عليها؛ وجدناه قد كاد يجمعها جميعًا إلا أن النقص شيمة الإنسان! فمثلًا لا حصرًا، الصدق، والشجاعة، والكرم من أهم صفات الرجل الفاضل عند العرب، وشرط الرفعة والسيادة، وبتفاوتها يتفاوت الناس ويتفاضلون، وقد أحرز الشهيد شأو هذه السجايا ومنتهاها!

صدق عهدُه حتى أنفذَهُ، وصدق قولُه حتى جسّده واقعًا عمليًا، وصدقت دعوتُه حتى كان أول مجيب لها، وصدق طلبُه حتى بلغه، وصدق اللهَ فصدقه اللهُ! وكان شجاعًا بطلًا وضع روحه على كفه، وكفنه على كتفه، لا يهاب شيئًا، إذ من لم يخف الموت فممَّ يخاف؟ من هان في نظره الموت هان في نظره كل خطر وضرر!

وكريمًا زاد كرمه كرم كل كريم، جُدنا بالطعام والكساء وجاد هو بالروح والدماء، أنفقنا مما نملك فأنفق هو كلَّ ما يملك، فبلغ قمة كل فضيلة وغاية كل كرامة. اليقين.. غاية كل صاحب عقيدة، ومَرْسَى كل سفينة تلاطمت بها أمواج الفكر والنظر ، وهو برد القلب وطمأنينته، ومنتهى الإيمان، ومرتقى الصديقين والأنبياء.

أما نحن فقلوبنا يملؤها الشك والتردد، وتتقلب وتعتريها الأحوال.. لكن الشهيد قد رسخ إيمانه ، واطمأن قلبه لقناعاته، وعظمت في نفسه فكرته؛ حتى هان في سبيلها كل شيء وإن كانت نفسه ! ذلك الشعور – والله – هو غايتي في الحياة!

السمو.. سما الشهيد عن أنانيتنا؛ فإن كان سعْيُنَا الحثيثُ لنفع أنفسنا وحمايتها، فإن سعيه هو للقيم والمبادئ والمعاني! يقول: لو كانت الدعوة لا تعبر إلا على قنطرة فذاك جسدي، وإن كان صرح السلام لا يُبنى إلا على عظام فتلك عظامي، وإن كانت الأرض لن تنبت إلا إذا رويت دمًا فهذا دمي..

لا شك أن الشهيد كان يحب أن يحيا معنا، ولكنه اختار أن يخرج من الصورة؛ حتى تبدو أوضح وأجمل، واختار أن يلقي نفسه من السفينة؛ حتى نكمل نحن رحلتنا! يختار الموتَ قبل أن يختار الموتُ منا، ويبادر المنيةَ قبل أن تبادرَنا! سما الشهيد عن رغبات الإنسان الطبيعي وحاجاته، سما عما يحب وما يشتهي إلى ما يجب وما ينبغي! كلنا نفكر في أنفسنا ونبذل لها، إلا الشهيد فإن فكره وبذله في سُبُل أجل وأرفع.

الخلود.. ما أفقرنا وأقصر أعمارنا حين نعيش سنوات – إن كثرت أو قلت – ستنتهي! فإن كانت الحياة ستنتهي فهي قصيرة حقيرة وإن طالت وحفِلت بكل نعيم! لكن الشهادة هي الخلود، تأمل ما قاله الشهيد سيد قطب: "عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا – أي عندما نعيش لفكرة – فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!

أما الشهيد فإنه يحب الحياة حتى يتقالّ حياتنا تلك القصيرة الفانية ويبتاع بها حياة الخُلد، نحبها حتى نحرص عليها على أي حال؛ وهو يحبها حتى لا يرضى أن يعيشها إلا كريمًا عزيزًا.

إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة نربحها حقيقة لا وهمًا، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا؛ فليست الحياة بِعَدِّ السنين، ولكنها بعدادِ المشاعر، وما يسميه "الواقعيون" في هذه الحالة وهمًا هو في الواقع حقيقة أصحّ من كل حقائقهم؛ لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة!".

أتعْلَم؟ عندما أسمع خبر استشهاد بطل من الأبطال أتخيل صورته ممددًا على الأرض مبتسمًا، لو نطق لقال: قد أديت الرسالة، وها هي كلماتي صاعدة ترفرف فوقي تسري في الناس، وهاهم على أثري يكملون ما بدأت، وها هو منزلي الأبدي يلقاني عزيزًا كريمًا؛ فما أريد أكثر من ذلك؟!

ما ذكرتُ من فضلٍ وشرفٍ يشترك فيه معنى "الشهادة" في كل دين وثقافة، أما فضلها عند الله (في الإسلام) فشأن أعظم، يطول فيه الكلام، يكفي أنه يبلغ منزلة لا يبلغها معه إلا الأنبياء والصدّيقين ، بل يغبطونه عليها، وأنه يأمن من أهوال القيامة التي يفزع منها كل الخلق ويستجيرون منها إلى النار.

أخيرًا، سيظل كلامي هذا إنشائيًا أدبيًا باردًا حتى إذا بلغتُ هذه المنزلة – الشهادة – يصبح كلامي حينها حيًا نابضًا مُصَدَّقًا! وهذا فضل آخر للشهادة عظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.