شعار قسم مدونات

فلسطينيون غرباء

blogs - فلسطينيون غرباء
كان ذاك يوم زفافي، حين لمست عن قرب ومن جديد معنى آخر لكوني فلسطينية، فلا يمكنني نسيان الطريقة التي رمقني بها صديقي الأميركي الجنسية، حين قدمته لأفراد عائلتي الصغيرة. فبعد أن ألقى التحية على كل من عمي النرويجي، وخالي البحريني، وأخي البريطاني، وعمتي الفلسطينية الإسرائيلية، وعمي الألماني الآخر، وما تبقى من العائلة الأردنية، لم يستطع إخفاء التعبير الأجوف الذي ارتسم على محياه، كما لم أستطع بدوري إلا أن أشعر للمرة الأولى لربما بغرابة هذا الأمر. بعد أن بدا المشهد فجأة، سيريالياً حد الاستهجان.
"لست متأكدأً إن كان علي أن أهنئك أولاَ، أم أعبر لك عن تفهمي للأمر"، كان جل ما قاله قبل أن تجذبني ذراع أحدهم للسلام على بقية الحضور. عبارة وحدها احتلت تفكيري وأنا أخفي دموعي خلف ابتسامة عريضة حملتها لما تبقى من تلك الليلة.

"ليس من السهل أن تكون فلسطينيا"، ليس في عالم كهذا، فمهما تعددت جوازات السفر التي تحمل، وتنوعت توجهاتك السياسية وانتماءاتك الحزبية، تبقى فلسطينياً للنهاية. فبغض النظر عن الدولة التي تقطنها ، من الصعب أن تشعر يوماً بمواطنتك الكاملة ولن ينظر اليك كمواطن مكتمل الهوية، أو كما كانت جدتي لأبي تسميني "فلسطينية مش أصلية"، كلما رفضت تناول الزعتر على الإفطار أو شاكستها بقولي إنني لست من مؤيدي زواج أبناء العمومة، فحتى في عيون جدتي، لم أكن يوماً فلسطينية بالكامل. فكيف بفلسطيني "أصلي" ألا يحب الزعتر. كنت بالنسبة لها، كغيرها من فلسطينيي الأرض، نسخة منقوصة عن هوية ضاربة الجذور.

أستطيع أن أفهم الآن كلمات جدتي الراحلة، ونظرتها لي ولأخوتي ممن ولدوا في أوطان الاغتراب. جميع المقاربات التي كانت تقيمها بيني وبين أبناء عمومتي ممن ولدوا ونشأوا هناك، بدت خاسرة، كنت دوماً في عيونهم نسخة "غربية" لا يربطها بالوطن إلا القليل. فكيف لفلسطينية حقة ألا تميز لأي من القرى والمدن الفلسطينية ينتمي ثوب "فلاحي" بعينه، وكيف يمكن لمن تفضل فطائر (البيغل) على الزعتر، وتجهر بعدم حقدها على كل من يعتنق اليهودية أن تنتمي إليهم. لكن هذا لم يوقفني لحظة عن اعتناق هذه الصفة، ولا دفعني لنبذ تساؤلاتي المتمحورة حول "كيف انتهينا هنا"؟

لي صديقة فلسطينية، من مخيمات اللجوء في لبنان، ولدت لأب يعمل طبيباً، لم يسمح له يوماً أن يمارس مهنته خارج أسوار المخيم . صديقتي وعائلتها تذوقوا ماذا يعني أن تولد فلسطينيا في دولة عربية.

ولدت لأب هجر وعائلته قسراً من حيفا إلى طولكرم في 1948، قبل أن يضطر للرحيل مجدداً، في العام 1967 لمخيم لاجئين أقيم على حدود البلدة. ما زلت أذكر حكايات والدي عن محاولات هروبه المتكررة من واقع فرض عليه، وهو الذي لم يتمكن من مغادرة المخيم إلا حين انتقل للدراسة في الجامعة الأردنية. كان هذا الإنجاز وحده، طاقة أمل مكنته من صنع حياة أفضل، له ولعائلته التي كونها فيما بعد. لكن رغم الحياة الجديدة والواقع المتغير، لم يتمكن يوما من الفكاك من لعنته الأبدية، ولا من تلك التي فرضها الاحتلال، لعنة اللجوء المتوارث.

لم تبد حكايات والدي عن التهجير وعن ضرائب اللجوء مرعبة لهذا الحد في سني صباي، ربما كنت أصغر من أن أدرك مرارة تجارب كتلك، ربما لم أكن كما هو الحال الآن، مسكونة بهاجس الهوية. أدركت بالتدريج، عاما بعد عام، وتجربة تلو أخرى، أنني لا أنتمي إلى أي مكان. لا يمكنني أن أدعي بثقة غير مشوبة بالشك أو التشكيك أنني من هنا أو من هناك، ليس كلياً على الأقل.

لا أنكر أن كوني أردنية الجنسية منحني حياة أسهل بكثير، مما مر به غيري من المهجرين، الذين لجأ أهاليهم لدول أخرى مجاورة. لا يمكن أن أدعي أن حياتي كانت سيئة، فقد تمكنت من الحصول على فرص تعليمية جيدة، كما كنت قادرة على التنقل بسهولة بين البلدان. عدا عن عملي في فرص وظيفية ممتازة. لكن ورغم أنني لم أعرف سوى الأردن موطناً، ورغم محاولاتي الجاهدة لإيجاد موطئ قدم، ما زال كثيرون يرونني فلسطينية قادمة من غرب النهر. لطالما كنت (من هناك) في عيون البعض.

لا يمكن لأي رأي متوازن أن ينكر أن الكثير من الفلسطينيين المتواجدين في كل مكان في العالم العربي، يعاملون من قبل الحكومات كمواطنين من الدرجة الثانية، خصوصا حين يتعلق الأمر بالولاء والمواطنة. وتسوء الأمور أكثر، حين يرتكب بعضهم أخطاء مميتة كالتفاخر بأصولهم غرب النهر أو الشكوى من الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة.

كما لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب من مواضيع محظورة، تتعلق بالمفهوم الحقيقي للمواطنة والمعنى الحقيقي للهوية. فالدستور وضمن إطاره النظري يمنح جميع حاملي الجواز ذاته حقوق المواطنة كاملة، لكن الأمر يختلف برمته على الأرض. ولكن، وبعيداً عن هذا، كانت همومي أكبر. كنت مهووسة بإيجاد هويتي الحقيقية، في عالم فوضوي، دائم التغير، فاقد للتوازن.

لا يعتبرني سكان غرب النهر ولا شرقه منهم. كما لا يمكن لأحد منهم تصنيفي بشكل قاطع. أنتمي في الحقيقة لطرفي النهر، تركيبة لا تخضع لتبويب واضح، وجود يستفز كثيرين. نحن من عالم يهوى التصنيف، عالم يعتنق مفاهيم انفصالية. عالم "نحن" و"هم".

أتساءل أحياناً ما إذا تمكنت من كبت الأصوات التي تسعى إلى هوية، شيء ما يخبرني أن ابنتها الأميركية ستواجه يوماً ما الأسئلة ذاتها. ليس من السهل أن تكون فلسطينياً.

لي صديقة فلسطينية، من مخيمات اللجوء في لبنان، ولدت لأب يعمل طبيباً، لم يسمح له يوماً أن يمارس مهنته خارج (أسوار) المخيم الذي سكنه لأعوام. صديقتي وعائلتها تذوقوا ماذا يعني أن تولد فلسطينيا في دولة عربية. هي بدورها لم تتمكن من تحديد نسبة (فلسطينيتها). ليس قبل أن تقرر الزواج من زميل الدراسة اللبناني وتكتشف أن القانون أيضا يتآمر ضدها، ويحجب عنها جنسيته، حيث اضطرت عندها، لمواجهة أسئلتها المتعلقة بالهوية من جديد. لم تجد بداً من اللجوء من جديد، وجدت ضالتها في الولايات المتحدة الأميركية، حيث قررت وزوجها أن يحظيا بمولودتهما الأولى هناك، في دولة تمنحهما جنسية غير منقوصة.

توفي عمي في ألمانيا، رحل وحيدا كما عاش، لكنه حرص وقبل أن يرحل عن الدنيا أن يعاود الاتصال بالعائلة التي تركها خلفه، تلك التي ما زالت تقطن المنزل الأول، رغم انقطاعه عنهم لعقود، بالنسبة لنا، كان عمي مواطنا ألمانياً بامتياز، بالنسبة لأصدقائه، كان عمي مزيجاً من الاثنين، لكنه ولدهشتنا كان دوماُ فلسطينيا، وصلتنا مذكراته، وعلمنا بعد حين، عن الصراعات الداخلية التي لونت أيامه، كنت أعتقد أنه نجح أخيراً في الانصهار تماماَ في الثقافة التي اختارها، اعتقدت أنه تمكن من إسكات ذاك الصوت الداخلي المطالب دوما بالرجوع.

لم ألتق للآن بصديقتي اللبنانية – الفلسطينية، أتساءل أحياناً ما إذا تمكنت من كبت الأصوات التي تسعى إلى هوية، شيء ما يخبرني أن ابنتها الأميركية ستواجه يوماً ما الأسئلة ذاتها. ليس من السهل أن تكون فلسطينياً، هذا ما حاول صديقي الأميركي إخباري إياه تللك الليلة، سؤال بعينه يلح علي كلما تذكرت كلماته "أليست سخرية القدر وحدها من جعلت أميركياً، ولد لأبوين مكسيكين، أن يشعر نحوي بالأسى؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.