شعار قسم مدونات

الصفح الكويتي الجميل

blogs - عمر الكندري
كانت أزمة نزوح العراقيين من أهل الموصل -التي بسط عليها تنظيم الدولة داعش نفوذه منتصف عام 2014- فرصة مناسبة لرأب الصدع الذي فتك بالعلاقة بين الأخوين الجارين طيلة الثلاثة عقود المنصرمة التي أعقبت اجتياح الجيش العراقي للكويت مطلع أغسطس عام 1990. 
الدبلوماسي الشاب عمر الكندري القنصل العام لدولة الكويت في إقليم كوردستان، هو القبطان الذي يقود سفينة الصفح الجميل هذه عبر زياراته الميدانية الدائمة إلى مخيمات النازحين، والتي تبدأ بالإشراف على طهي الطعام ـــ حيث يشرف الكندري بنفسه على تهيئة ستة آلاف وجبة طعام يوميا للنازحين الجدد بالتعاون مع مؤسسة إنسانية كوردية تحظى باحترام أممي اسمها منظمة البارزاني للإغاثة الإنسانية ـــ ولا تنتهي بعلاج المصابين جراء الحرب والتي كلفت ملايين الدولارات، يتبعها آلاف الشاحنات المحملة بعشرات الاآاف من أطنان الأدوية والمواد الغذائية، بالإضافة إلى عربات الإسعاف عبر حملة تأتي في إطار اهتمام دولة الكويت بإغاثة المنكوبين، حيث خصصت دولة الكويت مبلغ مئتي مليون دولار لإغاثة النازحين العراقيين ضمن حملة لإغاثة الشعب العراقي في نكبته الأخيرة التي سببها استيلاء داعش على ثلث أراضيه.

إن ماخلفه الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، كان كفيلا بحقن قلوب الكويتيين بالغضب تجاه العراق حكومة وشعبا، لكن ما خلفته الحرب الدولية ضد العراق كعقاب على خطيئة الغزو تجاوزت الغارات الجوية فيها الألف غارة كل يوم، كان كفيلا أيضا بتعبئة قلوب العراقيين بالمزيد من الغضب تجاه الكويت، وقد بدا هذا وذاك جليّا عبر التراشق الإعلامي والمواقف السياسية المتشنجة التي لم تهدأ إلا بعد أن تم اقتلاع النظام السياسي العراقي بأكمله واستبداله بنظام جديد كانت أول بادرة له هو تجريم الغزو العراقي ومحاسبة القائمين عليه، مما دفع بالعلاقة بين الجارين إلى ضفة الوئام، لكن هذا وحده لا يكفي لتقشير الصدأ المتراكم على القلوب منذ ثلاثة عقود، فالجراح لاتنكأ بالخطابات، والذي خلفته تلك الحرب بشعب الكويت كان أكبر من أن ينسى بسهولة، يقابل ذلك جروحا كثيرة خلفتها العقوبات الدولية على العراق بسبب غزوته تلك، والتي كان وقعها على الشعب العراقي قاسيا.
 

لم يكن الدبلوماسي الكندري مجبرا للسير على قدميه في الأوحال لنهار كامل وفقا لمهام الدبلوماسيين في شتى أنحاء العالم، لكن أسبابا إنسانية كثيرة دفعت الديبلوماسي الشاب الأسمر للقيام بها تجاه أهله من شعب الموصل.

الجيش العراقي الذي اقتلعه بريمر بقرار جائر كان جل مقاتليه من الموصل، المدينة السنية التي يعدها الباحثون الأجانب من أقدم المدن في العالم، إذ إنّها رفدت المؤسسة العسكرية العراقية بالحصة الكبرى من الضباط والعرفاء والجنود منذ تأسيس الجيش العراقي عام 1921، وهي أكثر المدن العراقية خصوبة لنمو التيارات القومية، مما جعلها تحمل عتبا عميقا على ما حل بالعراق، وتعترف بمرارة بأن كل ما حلّ بالعراق من مآس كان سببه غزو الكويت.

والموصل أسوة بمدن العراق تتفهم غضب الكويتيين، لكنها تعتقد أن زمن اللوم والعتب بين الإخوة لا بد أن ينتهي، والرأيان منطقيان جدا، الخازر وحسن شامي، المناطق المكونة من هضاب ووديان غرب أربيل و التي تم تخصيصها كمخيمات للنازحين من أهل نينوى، كانت الخريطة التي سارت فيها تلك السفينة المباركة التي يقودها موفد الأمير وشعبه إلى شعب الموصل، وفي تلك الخيام كانت الأرض موحلة تغوص في طرقاتها المركبات باستثناء طريق تم رصفه بالحصى، كحالة طارئة مع إنشاء المخيمات.

لم يكن الدبلوماسي الكندري مجبرا للسير على قدميه في الأوحال لنهار كامل وفقا لمهام الدبلوماسيين في شتى أنحاء العالم، لكن أسبابا إنسانية كثيرة دفعت الديبلوماسي الشاب الأسمر للقيام بها تجاه أهله من شعب الموصل الذي حلت به كارثة النزوح، شهدت ذلك وأنا أحضر احتفالية بسيطة لافتتاح المشفى الميداني الذي تبرعت به الكويت بكامل أدواته وملحقاته، ورأيت القنصل يترجل من مركبته التي كانت مطينة العجلات، ورأيته يتمشى في الأوحال بين الخيم، ورأيت الناس وهم يستبشرون ووجوههم تتهلل، وكانت هذه اللحظة قد كنست العتب المكدس بين الإخوة في لحظة واحدة، في تلك اللحظة كنت أقف وسط حشد من النازحين، وكان أقرب الواقفين مني أستاذا كبيرا في جامعة الموصل العريقة، وقد أبهرني بقوله، وهو يرى القنصل الكويتي يخوض في الأوحال وهو يتفقد المخيم (والله كأننا مدينة كويتية، فمنذ جئنا ونحن نأكل الخبز الكويتي، ونشرب الماء الكويتي، ونتداوى بالعلاج الكويتي، ولم نر مسؤولا عراقيا واحدا) وسمعت أيضا امرأة خمسينية تزغرد وتقول بصوت عال (حفظ الله الكويت ونعم الأهل).

الكندري سارت خطاه على الأرض الفاصلة بين أربيل ونينوى، ليتفقد أحوال النازحين في خطوة غابت عن الحكومة العراقية، حيث لم يصل منهم إلى هناك إلا ما لا يتجاوز أصابع اليد، إنها إيكاروس العظيمة.

إني إذ أوثّق ما شاهدت، لا بد أن أذكر محاورتي مع مجموعة من الأصدقاء العراقيين في أوروبا عبر مواقع التواصل وهم يتحدثون عن غياب العرب عن العراق، فأخبرتهم بالوجود العربي متمثلا في الكويت، ففرحوا كثيرا وهم يشاهدون الصور التي التقطتها عدستي هناك.. ليست المرة الوحيدة التي أشاهد فيها الكويت تدير شؤون النازحين، فقد شهدت شابا هادئا ذو محيا طيب يغمره الخجل يوزع الخبز والصناديق الممتلئة بالغذاء والدواء بيديه، وهو يمطر النساء والرجال بوابل من كلمات المودة، وتأكد لي فيما بعد أنه مدير إدارة الكوارث والطوارئ في جمعية الهلال الأحمر الكويتية يوسف فهد المعراج الكندري، يعبّد طريق المودة بين الأخوين الجارين، ويكنس عنه ما علق به من جور السنين ومصائب الحروب.

والكندري الديبلوماسي الكويتي سارت خطاه على الأرض الفاصلة بين أربيل ونينوى، ليتفقد أحوال النازحين في خطوة غابت عن الحكومة العراقية حكومة وبرلمانا، حيث لم يصل منهم إلى هناك إلا ما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومن برلمانيي الموصل تحديدا. إنها إيكاروس العظيمة وفقا للإغريق، أو مخزن الأقوات، فهي كانت مخزنا لأقوات الناس منذ سالف الأيام، كما يعلل المؤرخون سبب تسميتها الكوت أنها تعني مخزن الأقوات، رغم أن الإغريق أسموها إيكاروس، إنها إيكاروس العرب، وإنها كويت الشعب النبيل الكريم، فسلاما للكويت حكومة وشعبا، وسلاما لإيكاروس العظيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.