شعار قسم مدونات

الساعة الآن تمام الحرية

A man plays the role of a prisoner during a protest in support of Palestinian prisoners on hunger strike in Israeli jails, in Gaza City May 9, 2017. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa
ولما يَمّمت وجهي و قلبي شطر الأسرى أستروح هواءً مفعماً وأعب كرامة من لدنهم، تعثر قلمي مرتين، فقلت لنفسي اصمت.. اصمت قليلًا فإنك في حضرة الأسرى. اصّمت فهم لا يحتاجون صوتًا إضافيًا أو نقرا. اصّمت فهم ينزفون أكثر ممّا تشرب وأقل قليلًا ممّا تتنفس.
 
فصمتُ متسائلاً: أي تضامن هذا الذي سيكون من بضع كلمات ملتاعة أبتذلها على أعتابهم، وربما لا أكون فيها أكثر من ناكئ جروح. تضيق بنا الحياة وسط ألحان فرحة وتراتيل حزينة، فتتوه بنا العاطفة بين الصمود الأسطوري وبين آيات حزنٍ تتلى كقطرات مما تبقى في المآقي.

و حين ضاق بهم سجن الحياة، انطلقوا نحو الحرية صادقين صابرين ما عرفوا إلا المقاومة ليكتبوا بالصمود ما عجزنا عن كتابته بالحبر.. فصمتنا. جاءوا من بين أشجار الزيتون والبيوت والأزقة التي لم يفتك بها طاعون التسوية وصالوا وجالوا. دفنوا بعضا من رفاقهم بين غارتين ثم باسوا التراب و مضوا على ذات الطريق.. طريق الحرية.

يعترفون أنهم يألمون قليلا حين يستمعون من خلف القضبان لأم ما زالت تأتي منذ عشرين عاماً دون أن تشتكي من آلام المفاصل، وأن عصا الصبر التي تتوكأ عليها ما هي إلا للهش على الجنود القذرين.

تركوا أحلامهم على الأغصان كثمار لم يأن قطافها وذهبوا يبحثون عن حصتهم من الخلود. ولما طال انتظار أمهاتهم على موائد الغداء وما عادوا، تمنوا لو أنهن يقتنعن بأنهم ماتوا ليخففوا عنهنّ وجع الانتظار. وما علموا أنهن ما زلن يغطين الجمر بالرماد، ليبقى الطابون مشتعلاً ليومه التاليّ، وأن أحلامهم ما زالت ساخنة في أباريق الشاي.

مُنعَ عنهم الملح حين فركوا عين السجان به، فتوافدت على نوافذهم نوارس البحار محملة بملحها، فخلطوا الملح بندى الصباح وصنعوا شراباً حلو المذاق وشربوا، حتى إذا ما اقتربوا من آخره، ارتشفوا ببطئ ووسعوا الفجوة بين الرشفة والأخرى لإغاظة السجان.

كلما شاهدونا يبتسمون وكملا شاهدناهم يبتلعنا الحزن أو يكاد على أمنيات ما زالت تتأجج تحت أنقاض الأحلام والأهازيج الأولى، ودمعات معلقة بمقلِ الأمهات، وحسرات تنام في قلوب الأخوة والأخوات، وأنات محبوسة في صدور الآباء، وقُبل مرتعشة على شفاه الأبناء.. تتمنى أن تبوُس الأيادي والوجنات المُحمَرة "يقول المؤرخون أن تراب فلسطين يشبه احمرار الوجنات".

وحين تسألهم عن سر ابتسامتهم الدائمة يردون عليك بأنهم يعشقون الحياة وأن قلوبهم مربوطة مع الوطن كساعة الرقاص على ميعاده، فيبتسمون كلما نبض. ويخبروك أن رائحة المدن البعيدة ما زالت تأتي بعطر الراحلين وتدغدغ الأنوف الشماء بغدق ولطف فيبتسمون. ويُنبؤوك أنه كلما ارتفع صوت عواء العدو وازداد صفيره، يعلمون أنه يرفع صوته كي يخفي خوفه من وجودهم.. فيبتسمون.

ويعترفون أنهم يألمون قليلا حين يستمعون من خلف القضبان لأم ما زالت تأتي منذ عشرين عاماً دون أن تشتكي من آلام المفاصل، وأن عصا الصبر التي تتوكأ عليها ما هي إلا للهش على الجنود القذرين. فيخفون آلامهم ويبتسمون حين يطالعون صور الأولاد الذين كبروا بين الكروم، وصور البنات الواتي استطالت ظفائرهن وغرقت بالحناء المعجون بأديم الأرض.

أيّها الثابتون الصامدون الصابرون، واصلوا ابتساماتكم فثمّةَ خيوط من الضّوء تخرج من بين شفاهكم، وتقترب من الشفق الأرجواني المعشق باللآلئ، تنبئ بقدوم الفجر.. فالساعة قاربت الحرية إلا قليلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.